المصطلحات

معنى الوجودية: جذورها وتأثيرها على الإنسان

هل وقفتَ يومًا على حافةِ فراغٍ، تسألُ نفسك: “لماذا أنا هنا؟ وما معنى كل هذا الوجود؟” إنها الأسئلةُ التي لا تهدأ، كالموجِ يضربُ صخورَ الوعي الإنساني منذ فجرِ التاريخ. لكنَّ الوجودية، تلك الفلسفةُ التي انبثقتْ كضوءٍ في ظلامِ اللحظةِ الإنسانية، تُجيبُك بجرأةٍ: “أنت لستَ مجردَ كائنٍ مُساقٍ بقدرٍ مُسبق، بل أنت حرٌّ في أن تصنعَ معنى وجودك!”

هذه الفلسفةُ، التي اتخذتْ من الحريةِ شعارًا ومن المسؤوليةِ مبدأً، ليستْ مجردَ أفكارٍ تُقرأ في الكتب، بل هي رحلةٌ إنسانيةٌ عميقةٌ تلامسُ أعمقَ ما فينا. في هذا المقال، سنسبرُ أغوارَ كلمة “الوجودية”، من جذورِها اللغويةِ إلى صداها في الأدبِ والفنِّ وحياتنا اليومية، لنفهمَ كيف حوَّلَ فلاسفتُها القلقَ إلى قوةٍ، والعبثَ إلى إبداعٍ.


أصل كلمة “الوجودية”: عندما تُترجِمُ اللغةُ قلقَ الإنسان

كيف وُلدتْ كلمةٌ تعبِّرُ عن فلسفةٍ ثائرةٍ ضدَّ التقليدِ والمُسلَّمات؟ إنَّها قصةٌ تبدأُ من حروفِ اللاتينية، حيثُ اشتُقَّتْ من كلمة “Existentia” التي تعني “الوجود”، ثمَّ انتقلتْ إلى الفرنسيةِ في القرنِ التاسع عشرِ مُحمَّلةً بأسئلةِ الفلاسفةِ الذين رأوا في الوجودِ الإنساني لغزًا يستحقُّ التأمل.

لكنَّ المصطلحَ لم يتبلورْ إلا في القرنِ العشرين، حينَ أعلنَ جان بول سارتر في كتابه الوجود والعدم (1943) أنَّ “الوجود يسبقُ الماهية”، مُعلنًا ولادةَ الفلسفةِ الوجوديةِ كتيارٍ فكريٍّ مُنظم. أما سببُ التسمية، فيكمنُ في جوهرِ هذه الفلسفة: تركيزُها على “الوجود الفردي” للإنسان، لا على المُجرَّداتِ الميتافيزيقيةِ التي تُهملُ تفاصيلَ حياته الواقعية.

ولكن، هل تعلمُ أنَّ جذورَ الوجوديةِ تعودُ إلى القرنِ التاسع عشر؟ فقبلَ سارتر، كانَ سورين كيركغارد، الفيلسوفُ الدنماركيُّ الحزين، يصرخُ في وجهِ المثاليةِ الهيغليةِ: “لا تُحوِّلوني إلى فكرةٍ مجردةٍ! أنا إنسانٌ يخافُ ويختارُ ويُحبُّ!” لقد أرسى كيركغاردُ حجرَ الأساسِ حينَ ربطَ الفلسفةَ بالقلقِ الإنسانيِّ اليوميِّ، لا بالأنساقِ العقليةِ الباردة.


المعنى الفلسفي للوجودية: حينَ تكونُ الحريةُ عبئًا مُقدسًا

يقولُ سارتر في عبارةٍ تُلخِّصُ جوهرَ الوجودية: “الإنسان محكومٌ عليه أن يكونَ حرًّا”. فأنت، أيها الإنسان، تُلقى في هذا العالمِ دونَ سببٍ، ودونَ دليلٍ يُرشدك، لكنَّك تظلُّ مسؤولًا عن كلِّ اختيارٍ تقومُ به. إنها “الحريةُ المطلقة” التي قد تبدو للوهلةِ الأولى نعمةً، لكنها تُخفي وراءَها قلقًا وجوديًّا عميقًا.

الوجود يسبقُ الماهية:

هذه العبارةُ التي حوَّرَها سارترُ من التراثِ الفلسفيِّ، تعني أنَّ الإنسانَ لا يولدُ بجوهرٍ مُحددٍ (كأن يُقالَ: “هو طبيبٌ بالميلاد”)، بل يصنعُ جوهرَهُ عبرَ أفعالهِ. أنت لستَ “شيئًا” مُعدًّا سلفًا، بل أنت مشروعٌ لم يكتملْ بعد.

العبثيةُ: الرقصُ فوقَ فوهةِ البركان:

إذا كانَ العالمُ بلا معنىً مُسبقٍ، فكيف نواجهُ هذا الفراغ؟ هذا هو السؤالُ الذي احتارَ فيه ألبير كامو في كتابه أسطورة سيزيف، حيثُ شَبَّهَ الحياةَ بسيزيفَ الذي يُعاقبُ بدفعِ صخرةٍ إلى قمةِ جبلٍ، لتسقطَ مرةً أخرى. لكنَّ كامو يرى أنَّ التحديَّ الحقيقيَّ ليس في الصخرةِ، بل في “أن تتخيلَ سيزيفَ سعيدًا”. إنَّها دعوةٌ لخلقِ المعنى داخلَ العبثِ، كفنانٍ يرسمُ لوحةً على جدارِ الفوضى.

القلقُ الوجوديُّ: ثمنُ الحرية:

أما كيركغارد، فقد رأى أنَّ القلقَ ليسَ مرضًا يجبُ علاجه، بل علامةٌ على صحوةِ الروحِ. حينَ تدركُ أنَّك حرٌّ في اختيارِ دينكَ، عملكَ، وحتى قيمكَ الأخلاقيةَ، فإنَّك تواجهُ “دوارَ الحريةِ”، كمن يقفُ على حافةِ هاويةٍ. لكنَّ هذا القلقَ هو ما يمنحُ الحياةَ عمقًا، كالشجرةِ التي تمدُّ جذورَها في التربةِ المظلمةِ لتلمسَ نورَ السماءِ.


دلالات الوجودية: عندما تتحولُ الفلسفةُ إلى دماءٍ في عروقِ الثقافة

لم تكتفِ الوجوديةُ بأن تكونَ نظريةً فلسفيةً، بل غدتْ دمًا يجري في شرايينِ الأدبِ والفنِّ وحتى السينما.

في الأدبِ: أبطالٌ يبحثونَ عن معنى في عالمٍ بلا بوصلة:

عندما كتبَ دوستويفسكي روايةَ الجريمة والعقاب، لم يكن بطلُها راسكولنيكوف مجردَ قاتلٍ، بل إنسانًا يائسًا يختبرُ حريةَ الإرادةِ في عالمٍ فقدَ فيهِ اللهُ حضورَه. وفي روايةِ المسخ لـفرانز كافكا، نرى غريغور سامسا يتحولُ إلى حشرةٍ، رمزًا للاغترابِ الإنسانيِّ في مجتمعٍ يُعاملهُ كآلةٍ. أما مسرحياتُ سامويل بيكيت، مثل “في انتظار جودو”، فهي مرآةٌ لعالمٍ ينتظرُ أبطالُه معنىً لن يأتيَ أبدًا، فيضحكونَ لئلا يبكوا.

في السينما: ألعابُ العقلِ والواقعِ المُزيَّف:

هل شاهدتَ فيلمَ المصفوفة؟ إنه ليسَ مجردَ خيالٍ علميٍّ، بل استعارةٌ وجوديةٌ عن الإنسانِ الذي يكتشفُ أنَّ واقعَه مُزيَّفٌ، فيختارُ الحريةَ حتى لو كلَّفتهُ راحتَه. حتى أفلامُ وودي آلن، مثل “مانهاتن”، تُظهرُ شخصياتٍ تُحاولُ صنعَ معنىً للحياةِ بينما تتساقطُ الأوهامُ كأوراقِ الخريفِ.

في علمِ النفسِ: العلاجُ بالمعنى:

لم يقتصرْ تأثيرُ الوجوديةِ على الفنونِ، بل وصلَ إلى عياداتِ علماءِ النفس. فـفيكتور فرانكل، الناجي من معسكراتِ الاعتقالِ النازيةِ، أسسَ مدرسةً في العلاجِ النفسيِّ تقولُ: “حتى في أقسى الظروفِ، يبقى الإنسانُ حرًّا في اختيارِ موقفِه من المعاناةِ”. أما رولو ماي، فقد جعلَ من القلقِ الوجوديِّ طريقًا لفهمِ الذاتِ، كمن يُضيءُ شمعةً في كهفِ اللاوعيِ.


الوجودية اليوم: لماذا ما زلنا نحتاجُها؟

في عصرِ التكنولوجيا والاستهلاكِ، حيثُ يُختزلُ الإنسانُ إلى “بياناتٍ” في حواسيبَ، تعودُ الوجوديةُ كصوتٍ يُذكِّرنا بأننا أكثرُ من أرقامٍ.

حريةٌ تقاومُ القيودَ:

تساعدُنا الوجوديةُ على مواجهةِ أنظمةِ الحُكمِ الشموليةِ، وحركاتِ التمييزِ، لأنها تُؤكدُ أنَّ كلَّ فردٍ هو كونٌ قائمٌ بذاتِه. حينَ قالَ سارترُ: “الجحيمُ هم الآخرون”، لم يكنْ يقصدُ كراهيةَ الناسِ، بل خطرَ أن نحبسَ أنفسَنا في صورةٍ يفرضها المجتمعُ علينا.

انتقاداتٌ وردودٌ: هل الوجوديةُ تشاؤمٌ مُقنَّع؟

اتهمها البعضُ بتعزيزِ الأنانيةِ، أو تمجيدِ العبثِ. لكنَّ سيمون دي بوفوار، رفيقةُ دربِ سارتر، أجابتْ بأنَّ الحريةَ الوجوديةَ لا تنفصلُ عن المسؤوليةِ الاجتماعيةِ. فأنت حينَ تختارُ مصيرَكَ، تختارُ أيضًا مصيرَ البشرِ جميعًا.


الخاتمة: اخترْ معناكَ، فالأمرُ يرجعُ إليك

في النهاية، الوجوديةُ ليستْ فلسفةً تُقرأ، بل ممارسةٌ يوميةٌ. كلُّ لحظةٍ تقفُ فيها أمامَ خيارٍ – أن تصمتَ أو ترفضَ، أن تُحبَّ أو تُنهيَ علاقةً – هي لحظةٌ وجوديةٌ. لقد غيَّرَ سارترُ وكامو الطريقةَ التي نرى بها أنفسَنا، لكنَّ التحديَّ الأكبرَ يبقى: كيف نصنعُ من حريتِنا فَنًّا؟

أتركُكَ الآن مع سؤالٍ أخيرٍ، كهديةٍ من تلك الفلسفةِ الثائرة: “إذا كانت الحياةُ بلا معنىً مُعدٍّ سلفًا، فماذا تريدُ أن تنقشَ على جدارِ وجودِكَ أنت؟”

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى