معنى الملكوت: شرْح لغويٌّ، وشطحاتٌ في عوالم الغيب والفلسفة

هل سمعتَ يومًا همسَ الكلماتِ وهي تحملُ في أحشائها أسرارَ الوجود؟ هل وقفتَ أمامَ لفظة “الملكوت” كواقفٍ على شاطئ بحرٍ مُظلم، تُحاول أن تَسبرَ أغوارَهُ بعينٍ لا تُبصرُ إلا الظاهر؟ إنها كلمةٌ تتردَّدُ في الكتب المقدسة، وتتهامسُ بها ألسنةُ الحُكماء، لكنها تبقى كالسرِّ المُكتوم، لا يفكُّ طلاسمَها إلا من أُعطِيَ بصيرةً يرى بها ما وراء الحُجُب. فما أصلُ هذه الكلمة؟ وهل هي مفتاحٌ لعوالمَ لا تُرى، أم أنها مرآةٌ تعكسُ رحلةَ الإنسانِ في البحث عن المُطلق؟
الفصل الأول: أصل الكلمة.. حين تُولدُ اللفظةُ من رحم اللغة
لا يُمكنُ لنا أن نُمسكَ بخيطِ المعنى إلا إذا عدنا إلى المهد، إلى ذلك الجذرِ الأول الذي نبعتْ منه الكلمة. “الملكوت”.. إنها تُوشوشُ لكَ بأنها من “مَلَكَ”، لكنها ليست مِلكًا عاديًا، بل هي مُلْكٌ يُضخَّمُ حتى يَصيرَ سُلطانًا مُطلقًا. كأنَّ اللغةَ العربيةَ، بدهائِها، أرادتْ أن تُعلنَ: هذا المِلك ليس ككلِّ ملك، إنه يَحمِلُ في طياته عظمةً تفوقُ الوصف.
يقولُ ابنُ فارس في “مقاييس اللغة”: “الميم واللام والكاف أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على قوةٍ وشدةٍ في الشيء”، فكأنَّ “الملكوت” تَحمِلُ قوةَ المِلكِ وشِدَّتَه، لكنها تَرفعُه إلى مرتبةٍ تَجلَّتْ فيها السيطرةُ والهيمنةُ بلا حدود. ولعلَّ وزن “فَعْلُوت” الذي انضوتْ تحته الكلمةَ –كالجبروت والرحموت– يُضفي عليها هالةً من التعظيم، كأنما هي صيغةٌ تُنادي: “هذا المِلكُ ليس كسائرِ الأملاك، إنه مِلكُ العوالمِ الخفية”.
الفصل الثاني: الملكوت في النصوص المقدسة.. حيثُ يصيرُ اللغزُ نورًا
إذا كان للكلمةِ جسدٌ في اللغة، فإنَّ روحَها تتنفَّسُ في النصوص الدينية. انظرْ إلى القرآن الكريم وهو يَصوغُ العبارةَ كاللؤلؤةِ المُضيئة: ﴿وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾. هنا، يُصبحُ الملكوتُ نافذةً يُطلُّ منها النبيُّ إبراهيمُ على حقيقةِ الكون، وكأنَّ اللهَ يُريه خَلْقَهُ لا كصورٍ جامدة، بل كسلسلةٍ من الأسرارِ المُتداخلة، حيثُ كلُّ ذرةٍ تُسبِّحُ بحمدِ خالقها.
ولم يَكتفِ المفسرونَ بذلك، فابنُ كثيرٍ يَصِفُ الملكوتَ بأنه “عالمُ الغيبِ المُطلَق”، بينما يذهبُ الطبريُّ إلى أنَّه سُلطانُ اللهِ الذي لا يَشْرَكُهُ فيه أحد. أما في المسيحية، فـ”ملكوتُ السماوات” هو الحلمُ الذي يَعِدُ به الإنجيلُ المُؤمنين، حيثُ تذوبُ الدنيا الفانيةُ في أبديةٍ لا تنتهي.
لكنَّ السؤالَ يَظلُّ قائمًا: أليسَ “الملكوت” هو الجسرُ الذي يَصِلُ بين عالمِ الشهادةِ وعالمِ الغيب؟ أليسَ هو التعبيرُ الأعمقُ عن حقيقةٍ مفادُها أنَّ ما نراهُ ليس كلَّ ما هو كائن؟
الفصل الثالث: الفلسفةُ والتصوف.. حين يَصيرُ الملكوتُ فِكرًا وشُعورًا
لقد تلقَّفَ الفلاسفةُ والمتصوفةُ كلمةَ “الملكوت” كجوهرةٍ ثمينة، فصاغوا منها عوالمَ من التأويل. ها هو ذا ابنُ عربي، شيخُ المتصوفة، يُعلنُ أنَّ الملكوتَ هو “العالمُ الروحانيُّ الوسيط”، حيثُ تَتجلَّى الحقائقُ الإلهيةُ قبل أن تَنزلَ إلى عالمِ المادة. إنه المرحلةُ التي تَسبقُ الخلقَ المادي، كأنما هو الحلمُ الذي راودَ اللهَ قبل أن يَخلقَ الكون.
أما الفلاسفةُ، فقد رأوا في الملكوتِ صدًى لفكرةِ “المُثُل” عند أفلاطون، فكما أنَّ العالمَ المثاليَّ هو الحقيقةُ الأصيلة، فإنَّ الملكوتَ هو الوجودُ الحقيقيُّ الذي تَستمدُّ منه الأرضُ صورَتها الظاهرة. بل إنَّ بعضَهم ذهبَ إلى أنَّ الملكوتَ هو “الكونُ المُدرَكُ بالعقل لا بالحواس”، وكأنَّ الإنسانَ لو استطاعَ أن يَخلعَ جلبابَ الجسدِ لَصارَ من أهلِ هذا العالم.
الفصل الرابع: في الأدبِ والتراث.. حين يَلعبُ الخيالُ مع الحقيقة
ما أروعَ الكلمةَ حين تَنتقلُ من الكتبِ المُقدسةِ إلى قصائدِ الشعراء! ها هو صالح هويدي، يَهتفُ:
كلّ دوّمَ في ملكوتِ اللهِ وآبْ
إلا أنتْ
كلّ يفزعُ من دنياه .. يضيقُ بها
ليؤوبَ إلى عشّ أو بيتْ
أما في التراثِ الشعبي، فالملكوتُ هو عالمُ الجنِّ والعفاريت، حيثُ تَسردُ الجداتُ حكاياتٍ عن ممالكَ خفيةٍ تَحكمُها قوى لا يَعرفُها البشر.
لكنَّ السؤالَ يَظلُّ: هل هذه التخيلاتُ الأدبيةُ تُبعِدُ الكلمةَ عن حقيقتها، أم أنها تَزيدُها غنىً كاللونِ الذي يَزدادُ بهاءً كلما انعكسَ على أوجهٍ مختلفة؟
الفصل الخامس: الملكوتُ والمُلك.. هل هما توأمان أم خصمان؟
لنُفرِّقْ هنا بين “المُلك” و”الملكوت”، فالأولُ هو السُلطةُ الظاهرةُ التي يَملِكُها البشرُ على الأرض، أما الثاني فهو السُلطةُ الغيبيةُ التي تَختزلُ الكونَ كلَّه. إنَّ المُلكَ زائلٌ كالسراب، لكنَّ الملكوتَ باقٍ كالنجوم. المُلكُ يُقاسُ بالجيوشِ والثروات، أما الملكوتُ فيُقاسُ بالأسرارِ التي لا تُحصى.
ولعلَّ الفرقَ بينهما كالفرقِ بين الصورةِ وظِلِّها، أو بين الجسدِ والروح. فإذا كان المُلكُ هو القشور، فإنَّ الملكوتَ هو اللباب.
الخاتمة: هل نَستطيعُ أن نَرَى الملكوت؟
قد يقولُ قائلٌ: “كلُّ هذا الكلامُ جميل، لكن كيف نُدركُ الملكوتَ في زمنٍ صارَ فيه الغيبُ مُجرَّدَ وَهْمٍ؟”. لكنَّ الحقيقةَ التي تَنبغي ألَّا نَغفلَ عنها هي أنَّ الملكوتَ ليس مكانًا نَبحثُ عنه في الخرائط، بل هو رؤيةٌ نُدركُها حين نَستعيدُ تواضعَنا أمامَ عظمةِ الكون.
اقرأْ قولَ الله: ﴿أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، وتأمَّلْ كيفَ يَربطُ النظرَ في الملكوتِ بالنظرِ في خَلْقِ السماواتِ والأرض. فكلُّ زهرةٍ تتفتح، وكلُّ نجمةٍ تلمع، هي رسالةٌ من عالمِ الملكوت، تُخبرنا أنَّ الحقيقةَ أكبرُ من أن تُحصرَ في عيونٍ بشرية.
مراجع المقال: