معنى الجبروت: أصل الكلمة ودلالاتها بين اللغة والدين والأدب

هل وقفتَ يومًا أمام كلمةٍ تُلمع في النصوص كالذهب الخالص، فتسأل نفسك: ما سرّ هذا البريق؟ إنها “الجبروت”.. كلمةٌ تحمل في حروفها نَفَسَ القوة، وتختزل في معناها سِرَّ العظمة. ليست مجرد لفظة عابرة، بل هي مفتاحٌ لفهم عالمٍ من الدلالات التي تمدّ جذورها في اللغة، وتتفرع إلى سماوات الدين، وتتسلل إلى أروقة الأدب. فتعالَ نغوص معًا في أعماق هذه الكلمة، نقتفي أثرها من جذرها اللغويّ إلى تجلياتها في ثقافتنا، كاشفين عن وجهٍ قد يبدو غائبًا، أو مُختفيًا تحت غبار الزمن.
الفصل الأول: الجبروت في أحضان اللغة.. حين تُولد الكلمات من رحم الفعل
إذا كانت الكلمات تُولد من أفعالٍ كالأطفال من الأمهات، فإن “جبروت” وُلِدت من الفعل “جَبَرَ”، ذلك الفعل الذي يحمل في بطنه قوةً تُصلحُ ما انكسر، وتُقوّم ما اعوجّ. يقول ابن منظور في “لسان العرب”: “الجَبْر: إصلاح الكسر، وجَبَرَ اللهُ عز وجل خَلقه: أي قوّاهم”. فالجبروت إذن هي سُلطة الإصلاح بالقوة، أو هي القوة التي تمنح الإصلاحَ شرعيتَه.
ولكن اللغة العربية لا تكتفي بمعنى واحدٍ للكلمة، فهي كالنهر الذي يتشعب منابعه. فمن “جَبَرَ” خرجت “الجَبَّار”.. ذلك الاسم العظيم الذي حمله الله في كتابه: {الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} (الحشر: 23). وهنا تلتقي القوة بالرحمة، فالجبار — كما يفسر الراغب الأصفهاني — هو “الذي يجبر الضعيفَ بالعدل، ويُصلح شأن الخلق”. فالجبروت ليست قهرًا مجردًا، بل هي قوةٌ تحمل في طياتها حكمةَ الإصلاح.
أما “الملكوت“، فشقيقٌ لها في الاشتقاق، لكنه يختلف عنها كاختلاف النهار عن الليل. فإذا كانت “الجبروت” سلطان القوة، فالملكوت هو سلطان المُلك. وكما قال ابن القيم: “الجبروت: عالم الأرواح والقوة، والملكوت: عالم الأشباح والحكمة”. وهكذا تنسج اللغة بلفظةٍ واحدةٍ عوالمَ متوازية.
الفصل الثاني: الجبروت في مدارج السماء.. لقاء العبد بالرب
في الليل، حين يخلو المؤمن بربه، يردد في دعائه: “اللهم أنت رب الجبروت، والملكوت، والكبرياء”. إنها كلماتٌ ترفعها السنة النبوية إلى السماء، فتكشف أن “الجبروت” ليست مجرد مصطلحًا لغويًا، بل هي مقامٌ إلهيٌّ تَخْشَعُ له الأكوان.
وفي القرآن، لم ترد الكلمة صراحةً، لكن روحها تسري في آياتٍ مثل: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} (الأنعام: 18). فالجبروت هنا هي قمة التجلّي الإلهي، حيث لا يُسأل عما يفعل، وهم يُسألون. لكن هل هذه القوة قهرٌ للعباد أم رحمةٌ بهم؟ هنا يضيء ابن كثير في تفسيره: “الجبار: الذي يُصلح أحوال الخلق بالعدل، ويجبر كسر الضعفاء”. فالجبروت الإلهية ليست طغيانًا، بل هي عدلٌ يرفع المظلوم، ويُقوّم الظالم.
أما في العرفان الصوفي، فالجبروت هي المرتبة التي تسبق الملكوت في سُلّم الوجود. يقول ابن عربي: “الجبروت: عالم الأسماء الإلهية، والملكوت: عالم الأفعال”. فكأن الله خلق بالجبروت مشيئته، وبالملكوت صنعته.
الفصل الثالث: الجبروت في متون الأدب.. حين تصير الكلمة سيفًا أو قيثارةً
أما الشعراء، فقد حوّلوا “الجبروت” من مصطلحٍ فلسفيٍّ إلى لوحةٍ فنية. فالمتنبي، شاعرُ العظمة، يصرخ في بيتٍ كأنه من فولاذ:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صممُ
إنه يستعير روح “الجبروت” لِيُجسّد قوةَ الكلمة التي تخرق حجب الضعف.
وفي الشعر الصوفي، تتحول “الجبروت” إلى جسرٍ بين الأرض والسماء. يقول ابن الفارض:
وما الملكوت إلا مرآة جبروت
ترى فيها عيون القلب كل عجيب
هنا يصير الكون مرآةً تعكس بهاءَ القوة الإلهية، فيصبح الجبروتُ نورًا يسكب في روح العارف.
لكن الكلمة لم تسلم من الانزياح! ففي الأمثال الشعبية، صارت “جبروت” تُطلق على الطغاة: “فلان يصول بجبروته”. وكأن العامة استلهموا معناها اللغوي، لكنهم قلبوه من قوةٍ إلهيةٍ إلى سلطانٍ بشريٍّ فاسد. فهل هذا الانزياح تشويهٌ للكلمة، أم تأكيدٌ على مرونتها في التفاعل مع الواقع؟
الخاتمة: هل تُصلح الجبروت كسرنا أم تكسره؟
ها نحن نعود إلى نقطة البداية: “جَبَرَ”. فالكلمة التي بدأت بإصلاح الكسر، انتهت بأن صارت رمزًا للكسر نفسه في الاستخدام المعاصر. لكن اللغة كائن حيٌّ، والكلمات كالبشر: تُولد نقيةً، ثم تتعرض للفساد أو التكريس.
فهل نستعيد اليوم “جبروت” الروح التي تُصلح ولا تُهدم؟ أم أننا نتركها غارقةً في الانزياح حتى تفقد بهاءها؟ ربما تكون الإجابة في بيتٍ للشاعر أدونيس:
“اللغة وطنٌ لا يُرَى.. لكنه يُحسُّ كالضوء”.
فلنحفظ للكلمة ضوءها، كي لا تنطفئ.