معنى المسيحية: أصل الكلمة، دلالاتها التاريخية، وأبعادها
رحلةٌ في أعماق اللفظة التي صاغت وجدانًا عالميًّ

أتَعرفُ، أيها القارئ اللبيب، أن للألفاظ أرواحًا تتنفس بين حروفها، وتاريخًا يختزل صراعاتٍ وأسرارًا؟ فكلمة “المسيحية” التي يرددها اليومَ أكثرُ من ألفي مليون إنسانٍ، لم تكن يومًا مجردَ عنوانٍ لدينٍ، بل كانت لقبًا أُلقِيَ على جماعةٍ صغيرةٍ في زاويةٍ من زوايا الإمبراطورية الرومانية، ثم تحولت إلى عَلَمٍ يُرفَعُ على مذابحِ الإيمانِ وقبابِ الحضارةِ. هلمَّ إذن نفتح سجلَّ الزمنِ، ونقفُ على أطلالِ الكلمةِ، نستنطقُ جذورَها، ونستقرئُ مسيرتَها من الظلالِ إلى نورِ التاريخِ.
القسم الأول: أصلُ الكلمةِ.. حين تُولدُ الألفاظُ من رحمِ الحضاراتِ
بين “ماشيح” العبريةِ و”خريستوس” اليونانيةِ
كثيرًا ما تَخْفى على الناسِ أن الأسماءَ تحملُ في طياتِها حوارَ الأممِ. فكلمة “المسيحية” وُلدت من تلاقحِ لغتين عظيمتين: العبريةُ التي نطقَتْ بـ”ماشيح” (الممسوحِ بالزيتِ المقدسِ)، واليونانيةُ التي حوَّلتها إلى “خريستوس”، فكانت “كريستيانوس” لقبًا لأتباعِ ذاك الممسوحِ. وكأنما أرادت الأقدارُ أن يكونَ اسمُ الدينِ الجديدِ وليدَ الشرقِ والغربِ معًا، فاتحًا أبوابَ العالمِ بلسانٍ يفهمُه الرومانُ، ويحملُ في أحشائه نبضَ الأنبياءِ.
أنطاكيةُ.. حيثُ وُلدَ اللقبُ من أفواهِ الغرباءِ
في مدينةِ أنطاكيةَ، تلك الجوهرةِ التي تلمعُ بين شواهقِ جبالِ الشامِ، سمعَ الناسُ لأولِ مرةٍ هتافَ “مسيحيين” يُطلَقُ على جماعةٍ آمنت بيسوعَ مسيحًا. ولم يكن هؤلاء المؤمنون هم من اختاروا الاسمَ، بل نُحِتَ على ألسنةِ الساخرينَ من أهلِ المدينةِ، كما يُخبرنا سفرُ أعمالِ الرسلِ (11:26). لكنَّ العجيبَ أن هذا اللقبَ الذي بدأَ سخريةً، صارَ مع الزمنِ شارةَ فخرٍ، يُعْلِنُ بها المؤمنونَ انتسابَهم إلى “المسيح”، حتى قالَ القديسُ إغناطيوسُ الأنطاكيُّ في القرنِ الثاني: “إننا لا نستحقُّ اسمَ مسيحيينَ إلا إذا حملنا المسيحَ في قلوبِنا”.
القسم الثاني: المعنى الدينيُّ.. حين يصيرُ الاسمُ عقيدةً
المسيحُ: القلبُ النابضُ في جسدِ الإيمانِ
لا تكادُ تُمسكُ بكلمةِ “المسيحيةِ” حتى تسمعَ في أذنِكَ دويَّ الجلجثةِ، وتلمحَ في عينيكَ نورَ القيامةِ. فالإيمانُ بالمسيحِ ليس مجردَ اعترافٍ بأنه نبيٌّ أو معلّمٌ، بل هوَ إعلانٌ بأنه “الكلمةُ التي صارتْ جسدًا”، كما كتبَ يوحنا الإنجيليُّ. هنا، في هذا الاعترافِ، تكمنُ أسرارُ العقيدةِ:
- الثالوثُ: سرٌّ يُحيّرُ العقلَ، لكنه يرفعُ الروحَ إلى حيثُ الألوهةُ الواحدةُ في ثلاثةِ أقانيمَ.
- الفداءُ: دمٌ سالَ على الصليبِ ليغسلَ خطيئةَ آدمَ، وكأنما أرادَ المسيحُ أن يقولَ: “الحبُّ أقوى من الموتِ”.
- المحبةُ: ليست فضيلةً بين الفضائلِ، بل هيَ جوهرُ الإنجيلِ: “أحببْ قريبَكَ كنفسِكَ”، بل وأحببْ عدوَّكَ أيضًا.
النصرانيةُ والمسيحيةُ.. جدلُ الأسماءِ في مرايا الثقافةِ
أترى يا صاحبي أن الأسماءَ مرايا تعكسُ صراعاتِ الهويةِ؟ ففي التراثِ الإسلاميِّ، سُمّيَ أتباعُ المسيحِ “نصارى” نسبةً إلى الناصرةِ، بلدِ السيدِ المسيحِ. لكنَّ مسيحيي المشرقِ العربيِّ، رغمَ احتفاظِهم بلقبِ “النصارى” في النصوصِ الدينيةِ، فضّلوا “المسيحيةَ” عنوانًا لهم، وكأنما أرادوا أن يربطوا اسمَهم بالمسيحِ لا بمدينةٍ. وهكذا صارَ الاسمُ جسرًا بينَ الديانتينِ، أو ربما ساحةً لحوارٍ لم ينتهِ بعدُ.
القسم الثالث: المسيحيةُ كتاريخٍ.. حينَ يصيرُ الدينُ حضارةً
من كهوفِ فلسطينَ إلى قصورِ روماَ
ما أقسى أن تُولدَ فكرةٌ في زاويةٍ مُهمَلةٍ من العالمِ، ثم تحملَها الأقدارُ على أجنحةِ الإمبراطورياتِ! بدأتِ المسيحيةُ كنداءٍ بينَ صيادي السمكِ في بحيرةِ طبريةَ، ثم انطلقتْ مع بولسَ الرسولِ إلى أممِ الأرضِ. وفي عامِ 313م، حينَ أعلنَ الإمبراطورُ قسطنطينُ حريةَ العبادةِ، دخلتِ المسيحيةُ قصورَ السلطانِ، وتحولتْ من دينِ المضطهدينَ إلى دينِ المُضطهِدينَ أحيانًا. لكنها مع ذلك، حملتْ مشعلًا أنارَ ظلماتِ العصورِ الوسطى، فبنَتْ كاتدرائياتِ نوتردامَ، ورسمَتْ لوحاتِ مايكل أنجلوَ، وأنشأتْ جامعةَ السوربونَ.
الانقسامُ.. حينَ تتناثرُ الحقائقُ في مرايا المذاهبِ
لكنَّ الحضارةَ، كالبحرِ، لا تخلو من أعاصيرَ. ففي القرنِ الحادي عشرَ، انشقتْ شجرةُ المسيحيةِ إلى غصنينِ: كاثوليكيةٌ تتمركزُ في روماَ، وأرثوذكسيةٌ ترفضُ سلطةَ الباباِ. ثم جاءَ مارتن لوثرُ في القرنِ السادسَ عشرَ، فحطمَ قيودَ التقاليدِ، معلنًا أن “الإنسانَ يُبرَّرُ بالإيمانِ وحدهُ”، وهكذا وُلدتِ البروتستانتيةُ. أترى أن الانقسامَ دليلُ حيويةٍ أم آيةُ ضعفٍ؟ سؤالٌ يتركُه التاريخُ لأحفادِنا.
القسم الرابع: المسيحيةُ اليومَ.. بينَ هُويةٍ تذوي وأخرى تولدُ
هل صارتْ “المسيحيةُ” اسمًا بلا مسمى؟
في زمنِ العلمنةِ، حيثُ تتحولُ الأديانُ إلى تراثٍ ثقافيٍّ، لم يعدْ اسمُ “المسيحيةِ” يعني بالضرورةِ إيمانًا بالقيامةِ أو حضورًا للقداسِ. ففي السويدِ مثلًا، يُعرِّفُ 60% من السكانِ أنفسَهم كـ”مسيحيينَ ثقافيينَ”، بينما الكنائسُ تخلو من المصلينَ. أما في أفريقيا، فالمسيحيةُ تنمو كالنارِ في الهشيمِ، وكأنما تعيدُ الكلمةُ شَبابَها حيثُ بدأَتْ رحلتَها قبلَ ألفي عامٍ.
أرقامٌ تُخفي تناقضاتٍ
- يقولُ مركزُ “بيو” للأبحاثِ:
- أفريقيا تحتضنُ 26% من مسيحيي العالمِ، بينما أوروبا — مهدُ المسيحيةِ — لا تجمعُ إلا 23%.
- الكاثوليكُ نصفُ المسيحيينَ، والبروتستانتُ ثلثُهم، والأرثوذكسُ قلَّةٌ لكنهم يحرسونَ تراثَ الأجدادِ.
الخاتمة: كلمةٌ تكادُ تكونُ كونًا
أيتها الكلمةُ التي خرجتْ من ظلامِ أنطاكيةَ إلى فضاءِ الكونِ، ما أعجبَ مصيرَكِ! صرتَ دينًا وحضارةً، وحدةً وانقسامًا، إيمانًا يُلهبُ القلوبَ، واسمًا يُزيّنُ الهوياتِ. وكما قالَ الفيلسوفُ باسكالُ: “لو أن كلَّ إنسانٍ عرفَ تاريخَ دينهِ حقَّ المعرفةِ، لَكفى ذلك وحدهُ دليلًا على صحتِهِ”.
→ فما رأيُكَ أنتَ، أيها القارئُ الحكيمُ؟ هل يُمكنُ للفظةٍ أن تحملَ كلَّ هذا الثقلِ؟ أم أن الأسماءَ أوعيةٌ فارغةٌ، نملؤها نحنُ بمعانينا؟ اكتبْ رأيَكَ تحتَ، واقرأْ مقالَنا عن [معنى اليهودية] لتكتملَ الصورةُ.
ملحقاتٌ تثري العقلَ والروحَ:
- هل تعلم؟
- أولُ وثيقةٍ رومانيةٍ تذكرُ “المسيحيينَ” هي رسالةٌ من الحاكمِ بليني الأصغرِ (عام 112م) يسألُ فيها الإمبراطورَ تراجانَ: “أيقتلُ الإنسانُ لمجردِ أن اسمُهُ مسيحيٌّ؟”.
- اقتباسٌ يَخْتزِلُ الزمنَ:
- “المسيحيةُ ليستْ فلسفةً تُعلَّمُ، بل حياةٌ تُعاشُ” — القديسُ باسيليوسُ الكبيرُ.