معنى الكاثوليكية: جذور يونانية وتاريخ غربي

أتراكَ أيها القارئُ الحصيف تدركُ أنَّ وراءَ كلِّ لفظةٍ عابرةٍ نسمعُها في زحمةِ الحياةِ عالماً من الأسرارِ؟ فكيفَ إذا كانتِ اللفظةُ تُجسدُ تاريخَ عقيدةٍ هزَّت عروشَ الملوكِ، ورفعتْ صروحَ الحضاراتِ، وسكنتْ قلوبَ الملايينِ؟ إنَّ “الكاثوليكيةَ” ليستْ مجردَ اسمٍ لطائفةٍ دينيةٍ، بل هي حكايةُ ألفِ عامٍ من الصراعِ بينَ السماءِ والأرضِ، بينَ الروحِ والمادةِ، بينَ الوحدةِ والانقسامِ. دعني أخذُكَ في رحلةٍ نستنطقُ فيها حروفَ هذه الكلمةِ، فنعبرُ من شواطئِ اليونانِ القديمةِ إلى قاعاتِ الفاتيكانِ العتيدةِ، ونكشفُ كيفَ صاغَ المعنى اللغويُّ مصيراً دينياً، وكيفَ تحولَ الوصفُ إلى عقيدةٍ، والعقيدةُ إلى حضارةٍ.
١. أصلُ الكلمةِ: حينَ أعلنَ اليونانُ أنَّ “العالميةَ” قدرٌ إلهيٌّ
لم تُولدْ “الكاثوليكيةُ” في أحضانِ اللاهوتِ المسيحيِّ، بل انبثقتْ من رحمِ الفلسفةِ اليونانيةِ، فالكلمةُ في مهدِها الأولِ كانتْ تعني “ما يَعمُّ الكونَ كلَّهُ”، مشتقةً من “καθόλου” (كاثولُو)، أي “حسب الكلِّ”. ولكنَّ العجبَ كلَّ العجبِ أنَّ القديسَ إغناطيوسَ الأنطاكيَّ – ذلكَ الراهبُ الذي شربَ من نبعِ الإنجيلِ مباشرةً – هو من ألبسَها ثوبَ القداسةِ في القرنِ الثاني الميلاديِّ، فوصفَ الكنيسةَ بـ”الكاثوليكيةِ”، أي الجامعةِ، التي لا تُحَاصَرُ بحدودِ الأرضِ، ولا تُقَيَّدُ بأعراقِ البشرِ.
ولكنْ، ماذا صنعتْ روما بالكلمةِ حينَ التقطتها من يدِ اليونانِ؟ لقد حوَّلتها من مفهومٍ فلسفيٍّ إلى سلاحٍ سياسيٍّ! فحينَ انقسمَ المسيحيونَ في شمالِ أفريقياَ إلى فرقٍ متحاربةٍ، وقفَ آباءُ الكنيسةِ في روماَ يُرددونَ: “نحنُ الكاثوليكُ، أي العالميونَ، الذينَ يحملونَ الحقَّ المطلقَ”. وهكذا صارَ الاسمُ عنواناً للهيمنةِ الروحيةِ، يُشرعِنُ لروما أن تكونَ “أمَّ الكنائسِ”، وحَكَماً في خصوماتِ الإيمانِ.
٢. المعنى العقائديُّ: سُلطةُ البابا والأسرارُ.. أسرارٌ تبحثُ عن تفسيرٍ
إنْ سألتَ كاثوليكيًّا عن جوهرِ إيمانِه، فسيُجيبُكَ بفخرٍ: “نحنُ أبناءُ بطرسَ، حاملِ مفاتيحِ الملكوتِ!”، في إشارةٍ إلى أنَّ البابا – خليفةَ بطرسَ – هو حجرُ الزاويةِ في العقيدةِ، فلهُ أن يُحرِّمَ ويُبرئَ، وأن يُعلنَ الحقائقَ الإلهيةَ بلسانٍ معصومٍ. ولعلكَ تتعجبُ: كيفَ يصحُّ لعقلٍ بشريٍّ أن يدَّعي العصمةَ؟ لكنَّ الكاثوليكَ يُجيبونَ بأنَّها عصمةٌ محدودةٌ، لا تُلغي عقلَ البابا، بل تُنيرُه بنورِ الوحيِ حينَ يُحدِّثُ العالمَ في شؤونِ الإيمانِ.
أما الأسرارُ السبعةُ، فهي شمسُ الحياةِ الكاثوليكيةِ، تدورُ حولها كلُّ الطقوسِ. ففي سرِّ الإفخارستيا – وهو أشهرُها – يتحولُ الخبزُ والخمرُ – في نظرِ المؤمنِ – إلى جسدِ المسيحِ ودمِهِ تحولاً جوهريّاً، لا صورياً. وهنا يقعُ الخلافُ الأعظمُ مع البروتستانتِ، الذينَ يرونَ في ذلكَ سحراً كهنوتيّاً، بينما يرى الكاثوليكُ أنَّه “معجزةُ المحبةِ الإلهيةِ” التي لا تُدركُها عقولُ البشرِ.
ولا ينسى الكاثوليكُ أن يُعلوا من شأنِ “التقليدِ الكنسيِّ” إلى جانبِ الكتابِ المقدسِ، فيقولونَ: “إنَّ كلمةَ اللهِ لم تُكتَبْ كلُّها في الإنجيلِ، بل بعضُها تسربلَ بلباسِ التقاليدِ، وحلَّ في قراراتِ المجامعِ”. وهذا ما جعلَ كنيسةَ روماَ تُحاكمُ كلَّ من يعترضُ على تراثِها، كما حاكمتْ غاليليو حينَ قالَ: “والأرضُ تدورُ!”
٣. الدلالاتُ التاريخيةُ: يومَ أصبحتِ الكنيسةُ إمبراطوريةً
لعلَّ أعجبَ ما في تاريخِ الكاثوليكيةِ أنها بدأتْ ديناً مضطهداً، ثم صارتْ دينَ الدولةِ الرومانيةِ، ثم إمبراطوريةً روحيةً تتحكمُ في مصائرِ الملوكِ! ففي عامِ ٣٨٠م، أصدرَ الإمبراطورُ ثيودوسيوسُ مرسوماً جعلَ الكاثوليكيةَ دينَ الإمبراطوريةِ الوحيدَ، فتحولَ المسيحيونَ من ضحايا السيفِ إلى حملةِ السيفِ! وهنا بدأ عصرٌ جديدٌ، ستصبحُ فيهِ الكنيسةُ “وريثةَ روما”، تُنشئُ المدارسَ، وتُرسلُ البعوثَ، وتُوجِّهُ الحروبَ الصليبيةَ باسمِ الصليبِ.
ولكنَّ الكنيسةَ لم تكتفِ بالسلطةِ، بل أرادتْ أن تسرقَ الأبصارَ قبلَ الأسماعِ! ففي عصرِ النهضةِ، استدعى البابواتُ عمالقةَ الفنِّ – كمايكل أنجلو ورفائيل – لينحتوا من الرخامِ قصائدَ مرئيةً تمجدُ الإيمانَ. فسقفُ كنيسةِ السيستينا – بتفاصيلِه التي تَحارُ فيها العينُ – لم يكنْ زينةً فحسبَ، بل كانَ خطاباً للمؤمنِ الأميِّ: “ها هي السماءُ تفتحُ أبوابَها على الأرضِ!”.
ولا ننسى أنَّ الجامعاتِ الأولى – كالسوربونِ وبولونيا – كانتْ من صنعِ الكنيسةِ الكاثوليكيةِ، التي آمنتْ بأنَّ العلمَ خادمُ اللاهوتِ، فحفظتْ تراثَ أرسطو وأفلاطونَ، وربطتْ بينَ الفلسفةِ والدينِ في مدرسةٍ فكريةٍ عُرفتْ بـ”المدرسيةِ”، كانَ أبرزُ وجوهِها توما الأكويني، الذي قالَ: “إنَّ العقلَ هبةُ اللهِ، فلا يجوزُ كبتُهُ!”
٤. الكاثوليكيةُ اليومَ: بينَ صفاراتِ التحديثِ وأجراسِ الماضي
أما في زمانِنا هذا، فإنَّ الكنيسةَ التي حكمتْ العالمَ بالبابا والبرقعِ، تواجهُ زمناً يضحكُ من البابا والتيك توكِ! فمنذُ مجمعِ الفاتيكانِ الثاني (١٩٦٢-١٩٦٥)، والكنيسةُ تحاولُ أن توفقَ بينَ قداسةِ التقاليدِ وضروراتِ العصرِ، فسمحتْ بالقداسِ بلغاتِ الشعوبِ بدلَ اللاتينيةِ، واعترفتْ – بتحفظٍ – بحريةِ الأديانِ، لكنَّ المحافظينَ – بقيادةِ البابا السابقِ بندكت السادس عشرَ – ما زالوا يرونَ في هذه الإصلاحاتِ خيانةً للتراثِ.
والأعجبُ من ذلكَ أنَّ قلبَ الكاثوليكيةِ لم يعدْ ينبضُ في أوروبا، بل انتقلَ إلى عالمٍ جديدٍ: ففي أمريكا اللاتينيةِ يعيشُ نصفُ كاثوليكِ العالمِ، وفي أفريقيا يتكاثرُ المؤمنونَ كالنجومِ في الليالي المظلمةِ، بينما أوروبا – مهدُ الكاثوليكيةِ – صارتْ أرضَ الشكِّ والإلحادِ!
ولكنْ، ما أخطرَ ما تواجهُه الكنيسةُ اليومَ؟ إنَّه “العارُ الذي لا يُغسلُ” – فضائحُ التحرشِ الجنسيِّ التي هزَّتْ ضميرَ العالمِ. فتحقيقاتٌ صحفيةٌ كشفتْ أنَّ آلافَ الأطفالِ انتهكتْ براءتُهم على يدِ رجالِ الكنيسةِ، بينما كانَ الأساقفةُ يُخفونَ الجرائمَ حفاظاً على “سمعةِ الكنيسةِ”. وهنا يثورُ سؤالٌ أليمٌ: أيُ سمعةٍ تبقى لكنيسةٍ تُقدسُ الطهارةَ ثم تدنسُها؟
الخاتمةُ: هل تُصلحُ الكاثوليكيةُ شراعَها أم تغرقُ في بحرِ الحداثةِ؟
إنَّ الكاثوليكيةَ كشجرةٍ عتيقةٍ، جذورُها في أعماقِ التاريخِ، وفروعُها تتأرجحُ بينَ رياحِ التغييرِ. قد تطرحُ بعضَ أوراقِها الذابلةِ، أو تكسرُ غصنَها المتهاويِ، لكنها تبقى قادرةً على أن تورقَ من جديدٍ. فما أكثرَ التحدياتِ التي واجهتْها عبرَ القرونِ! من اضطهادِ نيرونَ إلى سخريةِ فولتيرَ، ومع هذا خرجتْ كالطائرِ الفينيقِ. لكنَّ سؤالَ العصرِ يظلُّ قائماً: هل تستطيعُ أن تُناغمَ بينَ عصا الباباِ الهزيلةِ، وصخبِ الشبابِ الذينَ يبحثونَ عن إيمانٍ بلا أسرارٍ، وسماءٍ بلا كهنةٍ؟
مراجعُ البحثِ: