المصطلحات

مفهوم الإبداع: رحلة في أعماق الكلمة والفعل

ما أشدَّ حاجتنا إلى الحديث عن الإبداع في زمنٍ باتت فيه الأفكارُ عُملةً نادرة، وزادت فيه الضوضاءُ عن كل صوتٍ مُختلف! لكن ما الإبداع؟ هل هو وهْمٌ يلاحق الأحلام، أم حقيقةٌ تَصنعُ التاريخ؟ قد يكون الإبداعُ هو الجسرَ الوحيدَ بين الإنسانِ والمستحيل، بين الذاكرةِ والمستقبل. في هذا المقال، سنسيرُ معًا في رحلةٍ نتعرف فيها على جذور الكلمة، ونغوصُ في تعاريفها، ونستنطقُ الفلاسفةَ والعلماءَ، ونبحثُ عن سرِّ ذلك النور الذي يضيءُ حين نُخرجُ شيئًا من لا شيء.


الفصل الأول: الكلمة التي اخترعتْ نفسَها

أصل الكلمة: ما الذي يَبدعُه المبدع؟

لو عدنا بالزمن إلى جذر كلمة “الإبداع” في اللغة العربية، لوجدناها تعودُ إلى الفعل “بَدَعَ”، الذي يحملُ في طياته معنى الابتداع والاختراع. يقول ابن منظور في “لسان العرب”: “ابتدع الشيءَ: اخترعه لا على مثالٍ سابق”. وكأن اللغةَ نفسَها تَعتبرُ الإبداعَ خروجًا عن المألوف، وتمردًا على التقليد.

لكنَّ الأمرَ لا يقفُ عند اللغة وحدها، ففي القرآن الكريم، نجدُ وصفَ الله تعالى بـ “بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ” (البقرة: 117)، مما يضعُ الإبداعَ في مرتبةٍ سماويةٍ، كأنه فعلٌ إلهيٌّ تُشرقُ منه العوالم.

الانزياح الدلالي: من الخلق إلى الفن

لم تكن كلمةُ “الإبداع” حبيسةَ المعاجم، بل تحولتْ مع الوقت إلى مصطلحٍ فلسفيٍّ وأدبيٍّ. ففي القرن الرابع الهجري، بدأ المتصوفةُ يتحدثون عن “إبداع” الأفكار كطريقةٍ للاقتراب من الخالق، بينما ربطها الأدباءُ في العصر العباسي بـ “صنعة الشعر” التي تُخرِجُ المعنى المبتكرَ من القالب المكرور.


الفصل الثاني: التعريف.. ذلك السؤال الذي لا ينتهي

لغةً: عندما يكون الابتكارُ لغويًّا

اللغةُ العربيةُ تمنحُ الإبداعَ معنى مزدوجًا: فهو من ناحيةٍ “اختراعُ الشيءِ دون سابق مثال”، ومن ناحيةٍ أخرى “الإتيانُ بالشيءِ على غير مِثال”. وكأن اللغةَ تؤكدُ أن المبدعَ لا يكتفي بخلقِ الجديد، بل يخلقُه بطريقةٍ تُذهلُ من يراها.

اصطلاحًا: كل عصرٍ وإبداعه

  • في علم النفس:
    يقول “جويلفورد” (1950) إن الإبداعَ هو “القدرةُ على إنتاجِ عددٍ كبيرٍ من الأفكارِ الأصيلةِ التي تُقدم حلولًا غير تقليدية”. وهو تعريفٌ يربطُ الإبداعَ بالذكاءِ المتفرد، لكنه لا يغفلُ الجانبَ العمليَّ للفكرة.
  • في الفلسفة:
    يرى الفيلسوف الألماني “كانط” أن الإبداعَ هو “حريةُ الخيالِ التي تَعبُرُ حدودَ العقلِ الواعي”، بينما يصفه “هنري برغسون” بأنه “انفجارُ الطاقةِ الداخليةِ للإنسانِ نحو الوجود”.
  • في المجتمع الحديث:
    تقول منظمةُ اليونسكو في تقريرها عام 2019: “الإبداعُ هو الوقودُ الخفيُّ للاقتصاداتِ الناجحةِ، والجسرُ بين التعليمِ والابتكار”.

الفصل الثالث: حوار مع العباقرة.. الإبداعُ عند الفلاسفة

أرسطو: الإبداعُ محاكاةٌ تَخلقُ ذاتَها

على الرغم من أن أرسطو ربطَ الإبداعَ بالمحاكاةِ في كتابه “فن الشعر”، إلا أنه أضافَ شرطًا جوهريًّا: “المبدعُ الحقيقيُّ لا يقلدُ الطبيعةَ، بل يَخلقُ طبيعةً جديدةً”. وكأن الفيلسوفَ اليونانيَّ كان يرى أن الإبداعَ هو محاكاةٌ تتحررُ من قيودِ الأصل.

ديكارت: الشكُّ طريقًا إلى الإبداع

عندما قال ديكارت: “أنا أشكُّ إذن أنا موجود”، لم يكن يعلنُ عن فلسفةٍ وجوديةٍ فحسب، بل كان يضعُ أساسًا لفهمِ الإبداع. فالشكُّ المنهجيُّ عنده هو البابُ الذي يُدخلُنا إلى عوالمَ جديدةٍ، حيث تُولدُ الأفكارُ من رحمِ الأسئلةِ المُقلقة.

العصر الحديث: الإبداعُ بين العقلِ واللاوعي

في القرن العشرين، حاولَ الفيلسوفُ الفرنسي “موريس ميرلوبونتي” أن يربطَ الإبداعَ بـ “الجسدِ والذاتِ معًا”، قائلًا إن الفنانَ المبدعَ لا يفكرُ بدماغه فقط، بل بكلِّ كيانه. أما “كارل يونغ” فقد رأى أن الإبداعَ ينبعُ من “اللاوعي الجمعي”، حيثُ تلتقي ذاكرةُ البشريةِ كلها في عقلِ المبدع.


الفصل الرابع: أنواعُ الإبداع.. كيف يلبسُ الإبداعُ أرديةً مختلفة؟

لعلَّ الإبداعَ أشبهُ بضوءٍ يتشظى إلى ألوانٍ عبر موشور، فلكلِّ نوعٍ بصمةٌ تختلفُ عن الآخر.

1. الإبداع الفني: عندما يتحدثُ الجمالُ

هو ذلك النوعُ الذي يَصنعُ من الورقِ قصيدةً، ومن الألوانِ حكايةً. خذ مثلًا لوحةَ “الليلةُ المرصعةُ بالنجوم” لفان جوخ، التي حوَّلَ فيها أزمتَه النفسيةَ إلى عملٍ فنيٍّ يُعبِّرُ عن اضطرابِ الكونِ نفسه.

2. الإبداع العلمي: حين تُولدُ النظرياتُ من رحمِ الأسئلة

هل تعلم أن أينشتاين توصَّلَ إلى نظريةِ النسبيةِ بينما كان يعملُ موظفًا في مكتب براءات الاختراع؟ لقد حوَّلَ ملاحظاتِه اليوميةَ إلى ثورةٍ غيرتْ مفهومَنا للزمان والمكان.

3. الإبداع الاجتماعي: صناعةُ التغييرِ من لا شيء

مشروعُ “جرامين بنك” في بنغلاديش هو خيرُ مثالٍ على هذا النوع. فالفكرةُ البسيطةُ (القروضُ الصغيرةُ للفقراء) حوَّلتْ اقتصادَ بلدٍ كاملٍ ونجحتْ في انتشالِ ملايينَ من براثنِ الفقر.


الفصل الخامس: الإبداعُ والابتكار.. توأمان أم خصمان؟

قد يظنُّ البعضُ أن الإبداعَ والابتكارَ وجهان لعملةٍ واحدة، لكن الحقيقةَ أن بينهما فروقًا دقيقةً كالفرقِ بين البذرةِ والثمرة.

وجه المقارنةالإبداعالابتكار
الطبيعةفكرةٌ مجردةٌ قد تكون خياليةتطبيقٌ عمليٌّ للفكرة
الزمنلا يعترفُ بالوقت (قديم/حديث)مرتبطٌ بالتطور التكنولوجي
الدافعحاجةٌ داخليةٌ للتفردرغبةٌ في حل مشكلةٍ أو تحقيق ربح
مثالفكرةُ الرسمِ ثلاثي الأبعاداستخدامُ التقنيةِ في الأفلام الحديثة

الفصل السادس: الإبداعُ في الفصل الدراسي.. كيف نُعلِّمُ الطلابَ أن يبدعوا؟

في منهج “أولى باك” بالمغرب، يُطرحُ الإبداعُ كمفهومٍ تربويٍّ يهدفُ إلى كسرِ حواجزِ الحفظِ والتلقين. ففي درس الفلسفة، يُطلبُ من الطلابِ تحليلُ نصٍّ لـ”إدغار موران” يقول فيه: “الإبداعُ هو القدرةُ على تحويلِ الفوضى إلى نظامٍ جديد”.

لكنَّ التحديَ الحقيقيَّ يكمنُ في كيفيةِ تقييمِ الإبداع. ففي دراسةٍ أجرتها جامعةُ هارفارد عام 2020، تبيَّن أن 70% من المعلمينَ يعجزون عن قياسِ الإبداعِ كمهارةٍ بسبب اعتمادِهم على الاختباراتِ التقليدية.


الفصل السابع: هل الإبداعُ موهبةٌ أم مهارةٌ؟ العلمُ يجيب

في عام 2018، نشرتْ مجلةُ “Nature” دراسةً مثيرةً خلصتْ إلى أن 40% من الإبداعِ موروثٌ جينيًّا، بينما الـ60% الباقيةُ تعتمدُ على البيئةِ والتعليم. لكنَّ عالمَ النفسِ “كيث سوير” يحذرُ في كتابه “Explaining Creativity” من تبسيطِ الأمر، قائلًا: “حتى العباقرةُ يحتاجون إلى 10 سنواتٍ من المحاولةِ قبل أن يبدعوا”.


الأسئلة الشائعة حول الإبداعُ:

س: ما هو تعريفُ المبدع؟

ج: المبدعُ هو من يرى العالمَ بِعَينٍ ثالثةٍ، لا تكتفي بوصفِ ما هو كائن، بل ترسمُ ما يمكنُ أن يكون.

س: هل يمكنُ أن يُصبحَ الإنسانُ مبدعًا بعد سن الأربعين؟

ج: نعم! دراسةٌ نُشرتْ في “مجلة العلوم النفسية” (2022) تؤكدُ أن ذروةَ الإبداعِ في المجالاتِ الإداريةِ تكون بين 45-55 عامًا.


الخاتمة: الإبداعُ.. ذلك الطفلُ الذي لا يكبر

في النهاية، يبقى الإبداعُ سرًّا من أسرارِ الوجودِ الإنساني. إنه ذلك الجزءُ منا الذي يرفضُ أن يُحصى، أو يُقاس، أو يُكرر. قد نختلفُ حول تعريفِه، لكننا نتفقُ على أن الإبداعَ هو الهواءُ الذي تتنفسُه الحضاراتُ لتبقى. فكما قال “بابلو بيكاسو”: “كل طفلٍ فنان، المشكلةُ هي كيف يبقى فنانًا حين يكبر”.


المراجع:

  1. ابن منظور، لسان العرب.
  2. Guilford, J. P. (1950). Creativity.
  3. تقرير اليونسكو حول الاقتصاد الإبداعي (2019).
  4. دراسة جامعة هارفارد عن قياس الإبداع (2020).
  5. موقع ويكيبيديا: مقالة الإبداع.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى