معنى التبرج: أصل الكلمة، دلالاتها، وحكمها في الإسلام

ما الذي يدفع امرأةً إلى إظهار زينتها؟ وهل يُختزل الجمال في ما يُرى من حُليٍّ وملابس؟ أسئلةٌ تتردد منذ عصور الجاهلية، حيث كانت المرأة تَظهر في الأسواق مُتزيِّنة بثيابٍ مُمزَّقة لتُعلن عن ثراء زوجها، إلى عصرنا الحالي حيث تتحول الزينة أحيانًا إلى سلعةٍ تُعرض في شاشاتٍ وفضاءاتٍ افتراضية. لكن الإسلام، منذ أربعة عشر قرنًا، رسم حدًّا فاصلًا بين الزينة المشروعة والانزياح عنها، فجاء تحذيره من “التبرج” كإعلانٍ عن رفض انزياح الجمال عن مقصده الأخلاقي. فكيف نُعرِّف التبرج؟ وما حكمه في القرآن والفقه؟ وأين يقف الفرق بينه وبين السفور؟
الفصل الأول: التبرج لغةً.. حين تُصبح الزينة حصنًا مُنهارًا
أصل الكلمة: من البروج إلى التبرج
لا تخلو اللغة العربية من مفارقاتٍ دلالية تَصنع من الكلمة مرآةً لتاريخ الأفكار. فكلمة “التبرج” تُشتق من “البُرج”، وهو الحصن العالي الذي يُحصّن صاحبه من الأعداء. لكن المرأة حين “تتبرج” لا تتحصن، بل تُهدم ذلك الحصن بيدها، فتكشف ما يُفترض أن يُخفى. يذكر المعجم أن “تبرجت السماء” تعني تزيَّنت بالكواكب، وكأن التبرج في الأصل جمالٌ مشروع، لكنه حين يُنقل إلى الإنسان يصير انزياحًا عن الاعتدال.
المعنى الاصطلاحي: الزينة التي تُحوّل الجمال إلى سلاح
لم يعد التبرج مجرد تزيّن، بل تحوّل في الاصطلاح الشرعي إلى “إظهار المرأة محاسنها لغير مَحارمها”، كما يذكر الفقهاء. فالجمال هنا ليس غايةً بذاته، بل أداةٌ لإثارة الانتباه، وكسر الحواجز بين الخاص والعام. وكما قال ابن منظور في “لسان العرب”: “التبرج هو تكلُّف إظهار الزينة”، أي أن الخطر ليس في الزينة ذاتها، بل في التكلُّف والإفراط.
الفصل الثاني: التبرج في القرآن والحديث.. نصٌّ يحمل ذاكرة الجاهلية
آية الأحزاب: عندما يُصبح التبرج عنوانًا للجهل
يقول الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33]. نزلت الآية في نساء النبي ﷺ، لكنها تحمل رسالةً لكل النساء: لا تعودن إلى عادات الجاهلية التي كانت تُجسد التبرج بأبشع صوره، كالمشي في الطرقات بثيابٍ تُظهر مفاتن الجسد، أو تعليق الحلي بشكلٍ صارخ. فالتبرج هنا ليس مجرد فعلٍ فردي، بل هو ثقافةٌ اجتماعية تُعيد إنتاج قيم الجاهلية.
البيعة التي ربطت الإيمان بالستر
في حديث البيعة المشهور، اشترط النبي ﷺ على النساء ألا يسرقن ولا يزنين، ثم ختم بشرطٍ يبدو للوهلة الأولى أقلَّ خطورة: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}. لماذا جمع النبي بين الكبائر والتبرج؟ لأن التبرج قد يكون بوابةً للانحرافات الأخلاقية، فهو ليس مجرد “ذنب صغير”، بل بيئةٌ خصبة لتغذية الرذائل.
الفصل الثالث: حكم التبرج.. بين الإجماع والاختلاف
دار الإفتاء: التبرج المُفرط من الكبائر
أفتت دار الإفتاء المصرية بأن التبرج الذي يُظهر مفاتن الجسد ويُثير الفتنة يُعد من الكبائر، مستندةً إلى إجماع الفقهاء على تحريم إظهار الزينة لغير المحارم. لكن السؤال الأهم: ما حدود الإظهار؟ هنا تتدخل النية والسياق؛ فكشف الوجه – عند من يجيزه – لا يُعد تبرجًا ما دام بلا قصد الإثارة، بينما ارتداء الملابس الضيقة مع النقاب قد يكون أشد حرمةً!
درجات التبرج: من الحُلي الخفية إلى العري الفاضح
ليس كل تبرجٍ واحدًا، فالفعل يختلف باختلاف الثقافة والقصد. وقد قسّم الفقهاء التبرج إلى ثلاث درجات:
الدرجة | الوصف | الحكم |
---|---|---|
الخفيف | كاستخدام عطرٍ خفيف | خلافي (بعض العلماء يكرَهه) |
المتوسط | ككشف الشعر مع المكياج الصارخ | حرام عند الأغلبية |
الشديد | كالملابس الشفافة أو الضيقة | حرام بالإجماع |
الفصل الرابع: التبرج والسفور.. عندما يختلف الحكم باختلاف القصد
السفور: الكشف البريء
يخلط الكثيرون بين “التبرج” و”السفور”، لكن الفرق جوهري. فالسفور – في بعض المذاهب – هو كشف الوجه والشعر دون قصد الإثارة، كالمرأة التي تخلع غطاء الوجه في عملها دون تباهٍ. أما التبرج فهو الكشف المُصاحب لنيّة جذب الأنظار، حتى لو كان المُظهر بسيطًا.
مثال حي: الحجاب الذي يُخفي ويُظهر!
قد ترتدي امرأةٌ “حجابًا” يلفُّ رأسها، لكنه من قماشٍ لامعٍ وملون، مع فستانٍ ضيقٍ يُبرز تفاصيل الجسد. هنا يصير الحجاب نفسه أداة تبرج، لأنه تحوّل من غطاءٍ إلى إطارٍ يُضيء ما تحته!
الأسئلة الشائعة: إجاباتٌ تُزيل اللبس
- ما الفرق بين المتبرجة والسافرة؟
- المتبرجة: تُظهر زينتها بقصد الإثارة.
- السافرة: تكشف شعرها أو وجهها دون قصدٍ فاسد.
- هل يجوز التبرج أمام النساء؟
- لا، إذا كان التشبه بالكافرات أو خوف الفتنة.
خاتمة: الجمال الذي يُصلح لا يُفسد
لم يُحذّر الإسلام من التبرج كرغبةٍ في إخفاء الجمال، بل لتحويله من أداة استعراضٍ إلى قيمةٍ أخلاقية. فالجمال الحقيقي – كما يقول علي بن أبي طالب – “ما صنعته الفضيلة، لا ما صنعته المرآة”. فلتكن زينتنا تواضعًا، ولتكن أخلاقنا هي البرج الذي نتحصن به.
المراجع:
- القرآن الكريم.
- صحيح البخاري.
- “الفتاوى الكبرى” لابن تيمية.
- موقع دار الإفتاء المصرية.
- معجم “لسان العرب” لابن منظور.