معنى السفسطة: من الحكمة اليونانية إلى خداع العصر

مَثلُ الحقيقةِ في هذا العالمِ كمثلِ مرآةٍ مُعلَّقةٍ بين السماءِ والأرض، كلٌّ يراها من زاويته، ويُحاول أن يُثبت أن انعكاسَه هو الأصلُ والأحقُّ. لكن ماذا لو وُجِدَ مَن يستخدمُ الكلماتِ كسِحرٍ يُغيّر زوايا المرآة، فيُظهر الوهمَ حقيقةً، ويُخفي الحقيقةَ وراء ستارٍ من البلاغة؟ هذا هو مَجالُ “السفسطة”، تلك الكلمةُ التي تحملُ في طياتِها تاريخًا من التناقضات: من حكمةِ الفلاسفة إلى تزييفِ الواقع. فكيف تحوَّلت من مدحٍ إلى ذمٍّ؟ وكيف صارت سلاحًا في يدِ مَن يَلعبون بعقولِ الناس؟ تعالَ نغوصُ في أعماقِ هذه الكلمة، نقتفي جذورَها، ونكشفُ أسرارَها.
الفصل الأول: أصل الكلمة.. حين كان السفسطائيون “حكماء”!
في أثينا القرنِ الخامسِ قبل الميلاد، حيثُ كان الفكرُ يُبنى بالحوارِ والسجال، ظهرَ رجالٌ سُمُّوا “السوفسطائيين”، اشتقاقًا من الكلمةِ اليونانية “Sophistḗs”، التي تعني “الحكيم” أو “المُتكلِّم البارع”. لم يكُن اللقبُ حينها شتيمةً، بل كان عنوانًا للفَضيلةِ والعلم. كانوا مُعلِّمي النخبةِ، يُدرِّسون البلاغةَ والفصاحةَ، ويصنعون من تلاميذِهم خطباءَ يُحكِمون السيطرةَ على الجماهيرِ بسلاسةِ اللسانِ وقوةِ الحجة.
لكنَّ رياحَ التاريخِ لا تأتي كما تُشتهى السفنُ! حين بدأ الفلاسفةُ الكبارُ مثل سقراط وأفلاطون يرفضون “بيعَ الحكمة” مقابل المال، تحوَّل السوفسطائيون إلى خصومٍ للحقيقة. هاجمَهم أفلاطون في حوارِه الشهير “الجمهورية”، واصفًا إياهم بأنهم “يُزيِّنون الباطلَ بحُليِّ الكلام”، ويجعلون من الضعيفِ قويًّا، ومن القويِّ ضعيفًا، وكأنهم يَلعبون بالحقائقِ كما يَلعبُ الأطفالُ بالصلصال!
الفصل الثاني: المعنى الفلسفي.. حين تصبح الحجةُ سيفًا ذا حدَّين
السفسطةُ في تعريفِها الأكاديمي هي: “فنُّ استخدامِ الحججِ المُضلِّلة، التي تَبدو منطقيةً ظاهريًّا، لكنها تَختفي وراءها أخطاءٌ مقصودةٌ لتسويغِ الباطل”. ليست كالمغالطةِ العابرةِ التي يقعُ فيها المرءُ دون قصدٍ، بل هي منهجٌ مُتعمَّدٌ لإقناعِ الآخرين، حتى لو تطلَّب الأمرُ التضحيةَ بالحقيقةِ على مذبحِ الانتصارِ للرأي.
خذ مثالًا بروتاغوراس، أشهرِ السوفسطائيين، الذي أعلنَ: “الإنسانُ مقياسُ كلِّ شيءٍ”، فجعلَ الحقيقةَ نسبيةً خاضعةً لأهواءِ الأفراد. أو غورغياس الذي قال: “لا شيءُ موجودٌ.. وإن وُجِدَ فلا يُمكن معرفتُه.. وإن عُرفَ فلا يُمكن توصيلُه”، فأنكرَ ببراعةٍ وجودَ الحقيقةِ نفسِها!
هنا يَبرزُ الفرقُ الجوهريُّ بين السفسطةِ والجدلِ الفلسفيِّ (الديالكتيك): فالأولى تهدفُ إلى “الانتصار”، والثانيةُ تهدفُ إلى “الوصولِ إلى الحقيقة”، حتى لو اضطرَّت إلى هزيمةِ صاحبِها.
الفصل الثالث: السفسطة في الثقافة العربية.. من ابن رشد إلى الجاحظ
لم تكن السفسطةُ وليدةَ التراثِ اليونانيِّ فحسب، بل عبرتْ بحرَ الزمانِ إلى الفكرِ الإسلاميِّ. فها هو ابن رشد في كتابه “تهافت التهافت”، يُحذِّر من “سفسطةِ المُتكلِّمين” الذين يَخلطون بين البرهانِ والخطابةِ، ويَستخدمون الشكَّ كسلاحٍ لهدمِ الحقائقِ بدلًا من بنائِها. أما الجاحظ، سيدُ البلاغةِ العربية، فقد رأى في السفسطةِ خطرًا يهدِّدُ العقلَ حين تُصبح “اللفظةُ أغلى من الفكرةِ”.
وفي العصرِ الحديث، صارت السفسطةُ جزءًا من خطابِ السياسةِ والإعلامِ. ألا تُشبه الخطبَ السياسيةَ التي تَعِدُ بالجنةِ وتَنسى ذكرَ النار؟ أو الإعلاناتِ التجاريةَ التي تَرفعُ شعارَ “هذا المنتجُ سيُغيِّر حياتَك”، بينما كلُّ ما يفعله هو تغييرُ رصيدِك البنكيِّ!
الفصل الرابع: السفسطة والمفاهيم الشقيقة.. أين يقع الفارق؟
قد تختلطُ السفسطةُ على البعضِ بالبلاغةِ أو المنطقِ، لكنَّ بينها هوّةً عميقةً:
- البلاغةُ فنُّ إقناعِ الجمهورِ بجمالِ الأسلوبِ وقوةِ التعبير، أما السفسطةُ فهي استخدامُ هذا الفنِّ لتزويرِ الحقائق.
- المنطقُ بحثٌ عن الحقيقةِ عبرَ قواعدَ عقليةٍ صارمةٍ، أما السفسطةُ فهي تحطيمُ هذه القواعدِ لصناعةِ حقائقَ وهميةٍ.
حتى المغالطاتُ المنطقيةُ تختلفُ عنها: فالمغالطةُ قد تكونُ خطأً غيرَ مقصودٍ، أما السفسطةُ فهي “مغالطةٌ مُتقَنةٌ” تُخطَّطُ كفخٍّ لإسقاطِ الخصمِ.
الفصل الخامس: السفسطة عبر العصور.. من أرسطو إلى كانط
لم تَسلمِ السفسطةُ من نقدِ العظماء:
- أرسطو في كتابِه “الخطابة”، وصفَ السوفسطائيين بأنهم “يَبيعون الحكمةَ كالتجارِ”، ويُقدِّمون الوهمَ بدلَ الغذاءِ الفكريِّ.
- ابن سينا اعتبرها “مرضًا روحيًّا” يُصيبُ العقلَ فيفقدُ القدرةَ على تمييزِ الحقِّ من الباطلِ.
- حتى عصرُ التنويرِ الأوروبيِّ لم يَخلُ من الهجومِ عليها: فولتير وكانط استخدما المصطلحَ لنقدِ الخرافاتِ التي تُزيَّنُ بثيابِ العقلانيةِ.
الفصل السادس: كيف نتعرف على السفسطة اليوم؟
ها هي السفسطةُ تُحيطُ بنا في كلِّ مكانٍ:
- في خطابِ السياسيِّ الذي يَعِدُك بتحقيقِ المستحيلِ دون أن يَذكرَ “كيف”.
- في إعلانِ التخسيسِ الذي يُخبرُك أن “فقدانَ 20 كيلو في أسبوعٍ” ممكنٌ.. لكن بخطٍّ صغيرٍ يَذكرُ: “نتائجُ تختلفُ من شخصٍ لآخر”!
لكن كيف نحمي أنفسَنا؟ - اسألْ دائمًا: هل هذه الحجةُ تعتمدُ على عواطفي أم على أدلةٍ؟
- ابحثْ عن الثغراتِ المُخفاة: هل يستخدمُ المُتحدِّثُ ألفاظًا فضفاضةً مثل “العدالةِ”، “التقدمِ”، دون أن يُحدِّدَ معناها؟
- تذكَّرْ مقولةَ أفلاطون: “الحقيقةُ أولُ ضحايا السفسطةِ”.
الخاتمة: هل صارت السفسطةُ لغةَ العصر؟
في زمنِ “ما بعد الحقيقة”، حيثُ تتحوَّلُ العواطفُ إلى وقودٍ للرأيِ العامِّ، والسوشيال ميدياُ إلى ساحةٍ لمعاركِ الأفكارِ المُزيَّفةِ، قد تكونُ السفسطةُ أخطرَ أسلحةِ العصرِ. فهل نستسلمُ لسطوتِها، أم نَصنعُ من عقولِنا مرايا لا تُكسَر؟
السؤالُ مفتوحٌ، والإجابةُ تبدأُ بفهمِ “معنى السفسطة”!
المراجع المُستخدمة :
- كتاب “تاريخ الفلسفة اليونانية” – يوسف كرم.
- “تهافت التهافت” لابن رشد.
- حوارات أفلاطون (الجمهورية، بروتاغوراس).