معنى الشريعة: رحلة في أعماق اللفظ وأسرار التشريع

هل خطرَ ببالك يومًا أن تتبعَ خيطًا من نورٍ لغويٍّ يوصلك إلى كُنْهِ كلمة “الشريعة”؟ ليست مجردَ قوانينَ جامدةٍ تُحَدِّد الحلالَ والحرام، بل هي نهرٌ جارٍ من الحكمة، بدأ رحلته منذ أن نطقت به الألسنةُ العربيةُ القديمة، ثم ارتقى ليصيرَ دستورًا إلهيًّا يربط السماءَ بالأرض. في هذا المقال، سنغوصُ معًا إلى جذور الكلمة، ونستنطقُ دلالاتها التي تموجُ بالحياة، من عصور الصحابة إلى جدليات العصر الحديث. هل أنت مستعدٌّ لرحلةٍ فكريةٍ تلامسُ روحَ الحضارة الإسلامية؟
1. الأصل اللغوي: عندما تُضيء الكلمةُ طريقَ المعنى
لا تُفهم الشريعةُ إلا إذا عُرفَ مَشربُها اللغويُّ الأول. انحدرت الكلمةُ من الفعل “شَرَعَ”، الذي يحملُ في أحشائه معاني الوضوحِ والانفتاح، كأنها طريقٌ مُشرَعٌ أمام السالكين، أو نبعٌ ماءٍ عذبٍ يُشرعُ شاربه بالارتواء. وكأن العربيةَ القديمةَ أرادت أن تقولَ لنا: “الشريعةُ بدايةٌ واضحةٌ لا التباسَ فيها”.
ولم تكن الآياتُ القرآنيةُ إلا تأكيدًا لهذا الجذر اللغويِّ الأصيل. يقول الله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا﴾ (الجاثية: 18). هنا، تتحولُ الكلمةُ من معناها الحسّي (مَشرب الماء) إلى رمزٍ للهداية الإلهية، كأنما التشريعُ نهرٌ روحيٌّ يُحيي القلوبَ قبل الأجساد.
أما الفرقُ بينها وبين “الفقه”، فهو كالفرقِ بين النبعِ والكأس: الشريعةُ هي المصدرُ المتدفقُ من السماء، والفقهُ هو ما استقاه العقلُ البشريُّ من ذلك النبعِ عبرَ القرون.
2. المعنى الاصطلاحي: حين تصير الكلمةُ كونًا من القيم
لو سألتَ الإمامَ الشاطبيَّ (رحمه الله) عن معنى الشريعة، لقال لك: “هي ما نَزَلَ به الوحيُ على قلبِ النبيِّ ليكونَ منهاجًا للناسِ في ظلماتِ الجهل”. إنها ليست قواعدَ مبعثرةً، بل نظامٌ متكاملٌ يُجسِّدُ حكمةَ الخالق في إصلاحِ الدنيا والآخرة.
ولكن، هل تعلم أن المذاهبَ الإسلاميةَ اختلفت في حدود هذا المفهوم؟
- فبينما يرى أهلُ السنةِ أن الشريعةَ تشملُ كلَّ ما نزلَ به الوحيُ (عقيدةً وأخلاقًا وقانونًا)،
- يرى بعضُ الفلاسفةِ المتصوفةِ أنها “الطريقُ إلى الحقِّ” عبرَ تطهيرِ الباطن،
- بينما ركزَ الفقهاءُ على الجانب العمليِّ (العبادات، المعاملات).
لكن الجميعَ يتفقون على أن مصادرَها الأربعةَ (القرآن، السنة، الإجماع، القياس) هي مرايا تعكسُ نورَ الوحي. أما أهدافُها (المقاصد)، فهي كالشمسِ التي تُنيرُ طريقَ التشريع:
- حفظُ الدين (كفرضِ الجهاد ضدَّ الطغيان)،
- حفظُ النفس (كتحريمِ الانتحار)،
- حفظُ العقل (كتحريمِ الخمرِ الذي وصفه ابنُ القيمِ بأنه “خيانةٌ للحكمة الإلهية”)،
- وحتى حفظُ المالِ والعرض، لئلا تتحولَ الحياةُ إلى غابةٍ يأكلُ القويُّ فيها الضعيفَ.
3. الدلالات التاريخية والمعاصرة: الشريعةُ كائنٌ حيٌّ يتنفسُ عبر الزمن
في رحاب التاريخ:
لم تكن الشريعةُ يومًا حبرًا على ورقٍ، بل كانت دماءً تجري في عروقِ الحضارة. اُنظر إلى عمرَ بنِ الخطابِ وهو يقفُ في سوقِ المدينة يُراقبُ تطبيقَ العدل، أو إلى القاضي أبو يوسفَ وهو يؤسسُ لقواعدَ اقتصاديةٍ تُنصفُ الفقيرَ من الغني. لقد تحولت الكلمةُ إلى دولةٍ وقضاءٍ ومؤسساتٍ في عصرِ الأمويين والعباسيين، بينما كانت المدارسُ الفقهيةُ (كالحنفيةِ والمالكية) تُثريها باجتهاداتٍ تُحاكي اختلافَ البيئات، من صحراءِ نجدٍ إلى سهولِ الأندلس.
في عصر الحداثة:
اليوم، تعودُ الشريعةُ لتُثبتَ أنها ليست سيفًا مُعلقًا على رقابِ الناس، بل روحٌ قادرةٌ على احتضانِ العلمانيةِ دون ذوبان. انظر إلى:
- “الصكوكِ الإسلامية” التي تجمعُ بين الربحِ والضوابطِ الأخلاقية،
- أو إلى فتاوى الطبِّ الحديثِ التي تُحرِّمُ استنساخَ البشرِ حفاظًا على النسل.
لكنها أيضًا تواجهُ إشكالاتٍ عصريةٍ، كجدلِ تطبيقِ حدِّ الردةِ في مجتمعاتٍ ترفعُ شعارَ الحريات، أو معضلةِ “المساواةِ بين المرأةِ والرجل” في الميراث. هل هذه إهانةٌ للشريعة أم اختبارٌ لقدرتها على التجدد؟
4. أسئلة شائعة: حوارٌ مع القلقِ الإنساني
- س: أليست الشريعةُ مجردَ حدٍّ للسرقةِ أو جلدٍ للزاني؟
- ج: هذا كمن يصفُ المحيطَ بقطرةِ ماء! العقوباتُ الجزئيةُ (التي لا تتعدى 2% من النصوص الفقهية) ليست إلا سياجًا لحمايةِ المجتمع، أما الجوهرُ فهو بناءُ إنسانٍ يعبدُ اللهَ كأنه يراه، ويعاملُ الناسَ كما يحبُّ أن يُعاملوا.
- س: كيف تُجيبُ الشريعةُ على مستجداتِ الذكاءِ الاصطناعي؟
- ج: بالاجتهادِ الذي لا ينقطع. فكما استنبطَ الأقدمونَ أحكامَ “البيوع الافتراضية”، يُجيبُ المحدثونَ عن “زواجِ الروبوتات” بمنطقِ المقاصد: هل يُحققُ مصلحةً أم يهدمُ كرامةَ الإنسان؟
- س: البعضُ يقولون إن الشريعةَ تُعارضُ حقوقَ الإنسان!
- ج: هذا السؤالُ يُذكِّرنا بجدلٍ قديمٍ بين الإمامِ الغزاليِّ وفولتير! الحقوقُ تختلفُ باختلافِ الفلسفات، فالشريعةُ تُعلي حقَّ الحياةِ (حتى للجنين)، لكنها تربطُ الحقوقَ بالواجبات، كي لا تتحولَ الحريةُ إلى فوضى.
الخاتمة:
في النهاية، الشريعةُ ليست كتابًا مُغلقًا، بل هي حوارٌ دائمٌ بين النصِّ والواقع، بين المطلقِ والمتغير. هي كالشجرةِ الضاربةِ في الأرض، التي لا تتوقفُ عن إنتاجِ الثمارِ لكلِّ جيلٍ. فهل نقرأها كسجناءٍ للماضي، أم كبناةٍ لمستقبلٍ يجمعُ بين أصالةِ الروحِ وعبقريةِ العصر؟