تعريف السياسة: نبض الحضارة من جذور اللغة إلى فنون السلطة

ليست السياسة حروفًا جامدة تُحكى في أروقة السلطة أو تُسجّل في كتب الفلاسفة، بل هي النَفَسُ الذي يحيي جسد المجتمع، واليدُ التي تُنظم سيره بين فوضى الطبيعة ونظام الحضارة. إنها، كما رأى أرسطو، “كائنٌ حيّ” ينمو مع الزمن، يتشكل بلغة الناس وتاريخهم. فكيف وُلدت هذه الكلمة؟ وكيف تحوّلت من فعلٍ بسيطٍ إلى عالمٍ معقّدٍ يمس كل تفاصيل حياتنا؟ هذا المقال رحلةٌ في أعماق “السياسة”، نكشف فيه عن أصلها اللغوي، ونفكّك مفاهيمها، ونستنطق دلالاتها، كي نفهم لماذا كانت – ولا تزال – محورَ صراع الإنسان بين حريته وسلطته.
الفصل الأول: أصل الكلمة.. حين كانت “السياسة” تدبيرًا للحياة
لا تنفصل دلالات اللفظ عن جذوره، فكلمة “السياسة” في العربية تُشير إلى فعل “السوس”، أي القيام على الأمر برعاية وحكمة. يقول ابن منظور في “لسان العرب”: “السائس هو القائم على الشيء، يُصلحه ويدبّره”. وهنا تكمن المفارقة العبقرية للغة العرب؛ فالسائس ليس حاكمًا متسلطًا، بل راعٍ يُمسك بزمام الأمور ليقي القطيع من عوادي الدهر.
أما عند الإغريق، فالكلمة الإغريقية “polis” (مدينة-دولة) هي أمُّ الكلمة الإنجليزية “Politics”، وكأنها تُذكّرنا بأن السياسة وُلدت من رحم الحاجة إلى تنظيم الجماعة في مكانٍ محدود، قبل أن تتسع لتشمل العالم. هكذا التقت الحضارتان: العربية بفلسفتها القائمة على الرعاية، والإغريقية بفلسفتها القائمة على التنظيم، لتخلقا معًا مفهومًا يجمع بين الحكمة والسلطة.
الفصل الثاني: تعريف السياسة.. أهي فن أم علم أم حرب؟
لو سألت عشرين فيلسوفًا لَأجابوك بعشرين تعريفًا، لكنها كلها تدور حول فكرة واحدة: الصراع من أجل صناعة واقعٍ أفضل (أو أسوأ، وفقًا لنوايا الساسة!).
- لغويًا: لو عاد بنا الزمن إلى شاعرٍ جاهليٍ لقال: “السياسة هي أن تُمسك بيد الرعية كي لا تتيه في الصحراء”.
- عند أرسطو: هي “آلة السعادة العامة”، فالحكم الفاضل – بنظره – لا يطلب مجد الحاكم، بل رفاه المحكوم.
- في العصر الحديث: صارت تعريفاتها أكثر تعقيدًا، لكنها تلتقي عند فكرة “صناعة القرار الملزم”، سواء كان هذا القرارُ تشريعًا لضريبةٍ جديدة، أو إعلانًا لحربٍ، أو حتى قرارًا منزليًا بتوزيع مهام الأعمال بين أفراد الأسرة!
أما مفهوم السياسة الأعمق، فيكمن في أنها مرآةٌ تعكس تناقضات الإنسان: ففي الوقت الذي يسعى فيه للسلطة، يرفض أن يُسلَّط عليه، وهنا يبدأ “فن” الموازنة بين هذين النقيضين.
الفصل الثالث: دلالات السياسة.. أين تختبئ في حياتنا؟
لو فتشت في يومك العادي لوجدتها في كل شيء:
- حين تدفع ضريبةً، أنت أمام سياسة اقتصادية.
- حين تختار رئيسًا، أنت في قلب سياسة ديمقراطية.
- وحتى حين تُقنع طفلك بتنظيم غرفته، أنت تمارس سياسة التفاوض!
لكن أعظم دلالاتها تظهر في السياسة الخارجية؛ فتاريخ البشر سلسلة من المواقف الدبلوماسية الذكية (أو الغبية!). فاتفاقية “وستفاليا” (1648) التي أنهت حرب الثلاثين عامًا في أوروبا، لم تكن سوى سياسةٍ حوّلت الدماء إلى حبرٍ في معاهدات. أما اليوم، فسياسة الطاقة تُحرّك صراعاتٍ تهدد بتحويل الحبر إلى دماء من جديد!
الفصل الرابع: أنواع السياسة.. حين تتشظى الكلمة إلى ألوان
لا تكاد تُحصى أنواعها، لكننا نختصرها في أربعة أعمدة:
- السياسة الداخلية: هي “طب المجتمع” الذي يشخّص أمراضه ويصف الدواء، لكنه أحيانًا يُخطئ التشخيص فيتحول الدواء إلى سمّ!
- السياسة الخارجية: لعبة شطرنجٍ كبرى، تُحركها المصالح، ويفوز فيها من يقرأ خطوات الخصم قبل أن يخطوها.
- السياسة الاجتماعية: محاولةٌ دائمة لسد الفجوة بين الإنسان وحلم العدالة، كقوانين منع التمييز أو دعم الفقراء.
- السياسة البيئية: اعترافٌ أخير بأن الإنسان ليس سيد الكون، بل جزءٌ منه، وأن جشعه قد يُهلكه.
الفصل الخامس: أهداف السياسة.. هل نحلم أم نصنع اليوتوبيا؟
لو كانت السياسة سفينة، لكانت أهدافها النجوم التي تُرشدها في ليل المحيطات:
- الأمن: ليس مجرد غياب الحرب، بل حضور الطمأنينة في قلوب الناس.
- العدالة: ليست مساواةً عمياء، بل إنصافٌ يراعي الفروق.
- الحرية: تلك التي لا تتحول إلى فوضى، كالنهر الذي يُبنى له سدودٌ لئلا يفيض.
- التنمية: أن ينمو المجتمع كما تنمو الشجرة، بجذورٍ في الأرض وأغصانٍ في السماء.
لكن الخطر كل الخطر أن تتحول هذه النجوم إلى سراب! فكم من حاكمٍ ادعى السعي لها، فإذا به يُضحي بها على مذبح السلطة.
الفصل السادس: فن السياسة.. حين تصير القوة إبداعًا
أعظم الساسة هم أولئك الذين حوّلوا السياسة من “صراعٍ دموي” إلى “لوحةٍ فنية”، ومنهم:
- صلاح الدين الأيوبي: الذي جمع بين سلاح الحرب وسلاح الكرم في تحرير القدس.
- ونستون تشرشل: الذي حوّل خطاباته إلى سهامٍ نفسية كسرت عزيمة الأعداء في الحرب العالمية الثانية.
- نيلسون مانديلا: الذي أبدع في تحويل الانتقام إلى مصالحة، فخلد اسمه كرسامٍ للسلام.
أما فن السياسة الحقيقي، فهو أن تعرف متى تكون صلبًا كالحديد، ومتى تكون لينًا كالماء، وأن تدرك أن الكلمة قد تقهر ما لا تقهره السيف.
الخاتمة: السياسة.. هل نستطيع أن نعيش بدونها؟
قد يقول ساخرٌ: “لو اختفت السياسة لعشنا في سلام!”، لكن الحقيقة أن اختفاءها يعني الفوضى، لأن الإنسان – كما قال أرسطو – “حيوان سياسي” بفطرته. فحتى في جزيرةٍ منعزلة، سينشأ نظامٌ ما، وسلطةٌ ما، وقواعدُ ما.. هذه هي السياسة في أبسط صورها.
فلا تكن سياسيًا محترفًا، ولكن لا تكن جاهلًا بالسياسة، فالجاهل بها كمن يسير في غابةٍ ليلًا بلا مصباح.
مراجع المقال:
- ابن منظور، “لسان العرب“، دار صادر، بيروت.
- كتاب أرسطو والسياسة
- السياسة كمهنة… أو حكمة ماكس فيبر المستدامة
- موقع “موسوعة ستانفورد للفلسفة” (مراجعة 2023).