المصطلحات

تعريف الإرهاب: من الرهبة القديمة إلى الصراع الحديث

مَن مِنّا لم يُصبه ذلك الارتباك حين يسمع كلمة “إرهاب”؟! هل هي مجرّد “عنف” مُجرّم، أم أنها صرخةُ مظلومٍ حُوِّلت بفعل الخطاب إلى وحشٍ؟ بل هل تعلم أنك لو عشت في القرن الثامن عشر الفرنسي، لربما اعتُبرت “إرهابياً” لمجرّد معارضتك الملك؟! هكذا تبدأ حكايتنا مع كلمةٍ تختزل صراعَ البشر بين الخوف والسلطة، بين الحقيقة والزيف. فلنغوص معاً في أعماقها، كمن ينفض الغبار عن كتابٍ قديم، لنجد أن التعريف ليس حجراً منحوتاً، بل مرآةً تعكس وجهَ مَن يمسك بها.


الفصل الأول: الجذور.. حين كانت “الرهبة” فضيلة!

في البدء كانت الكلمة: “ر-ه-ب”. جذرٌ عربيٌ أصيلٌ يحمل في أحشائه معنى “الخوف المُقدَّس”. انظر إلى القرآن الكريم وهو يخلع عليها رداءَ العزة: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ﴾. ترى، هل كان الأسلاف يرون في “الإرهاب” دناءةً أم بطولة؟! بل إن الجاحظ، بلسانِهِ الساخر، وصف في “البيان والتبيين” كيف أن “إرهابَ” الخصم بالكلمة كان فناً يُتقن قبل السيف!

لكنّ الكلمة لم تكن عربيةَ الهوى فقط. ففي روما القديمة، كان “Terror” لقباً لإله الرعب، وفي الثورة الفرنسية (1793)، صار “عهد الإرهاب” اسماً لفصلٍ دمويٍ قُطعت فيه رؤوس الأبرياء بحجة حماية الجمهورية! يا للعجب.. فالكلمة التي بدأت كسلاح دفاع، صارت ذريعةً لسفك الدماء!


الفصل الثاني: الانزياح الدلالي.. حين يسرق السياسي الكلمة!

ها هنا تكمن المفارقة: فالكلمة كائنٌ حيٌّ ينمو ويَتلوَّن كالحرباء. ففي القرن العشرين، رفعتها حركات التحرر في آسيا وإفريقيا شعاراً، بينما رأتها الدول المستعمرة “همجيةً”. هل تذكرون “نيلسون مانديلا”؟ لقد ظلّ على قوائم الإرهاب الأميركية حتى عام 2008! أما اليوم، فبعد أحداث 11 سبتمبر، صار “الإرهاب” مرادفاً لـ”الشر المطلق”، لكنْ.. أي شرٍ هذا الذي تتعدد معاييره؟!

في القانون الدولي، تحاول الأمم المتحدة منذ 2004 تعريفه كـ”عنف يهدف إلى إرهاب المدنيين”، لكنها تفشل بسبب اعتراضاتٍ مثل: “هل مقاومة الاحتلال إرهاب؟”. وفي الميثاق العربي (1998)، جاء الجواب: “لا”، بينما تقول أوروبا: “نعم”! وكأنما الكلمة لعبةٌ في يد الأقوياء، يُقلبونها كما يُقلبون مصائر الأمم.


الفصل الثالث: الخطاب.. حين تصنع الصورةُ “إرهابياً”!

أرأيتَ كيف يتحول الإنسان إلى شيطانٍ بنظارةٍ سوداء؟! في الإعلام الغربي، صار “الإرهابي” رجلاً بلحيةٍ وعباءة، يُطلِق آيات القرآن خارج سياقها. لكن انتظر.. ألم يقل “باولو كويلو” يوماً: “الإرهاب الحقيقي هو أن تعيش في بلدٍ يمنعك من التفكير”؟

أما في الشرق، فها هو النظام السوري يلصق التهمة بكل معارضٍ، وتركيا تتهم الأكراد، و”إسرائيل” تُطلقها على كل فلسطيني! حتى باتت الكلمة كالسكين: يُطعن بها الخصوم، ويُخبئها الأصدقاء تحت عباءة “المقاومة المشروعة”. فهل نلوم الكلمة أم نلوم ألسنةً تروّجها؟


الفصل الرابع: الفلسفة.. هل الإرهاب في العين أم في القلب؟

اسمعوا هذه القصة: في 2016، قصف طائرات التحالف الدولي مدينة الموصل، فمات مئات المدنيين. الغرب سمّاه “ضربةً دقيقة”، والإعلام العربي وصفه “إرهاباً دولياً”. فمن المحق؟!

الفيلسوف “نعوم تشومسكي” يصرخ: “الإرهاب هو ما تفعله الدول الكبرى، أما الضعيف فهو إرهابي”. بينما القانون الدولي يقول: “المقاومة حقٌ إذا كانت ضد احتلال”. لكن ماذا لو كانت المقاومة تُفجّر مقهى؟ هنا ينشقّ الرأي كالصخر: فالبعض يرى “ضرورةً”، والبعض يرى “انحرافاً”. فهل الحل أن نلعن الكلمة، أم أن نعيد تعريف العدل؟


الخاتمة: هل نكتب الكلمة.. أم تكتبنا؟

في النهاية، أيها القارئ الكريم، الإرهاب ليس “كلمة” نلعب بها، بل هو مرآةٌ تكشف عوراتنا جميعاً. فكلٌّ منا يرى في المرآة وجه عدوه، وينسى أن الظلّ الذي يخاف منه قد يكون من صنع يديه!

فلنكن أوعى من أن نكون أدواتٍ في لعبة المصطلحات. اقرأ التاريخ، حلِّل الخطاب، واسأل نفسك: هل تخاف من “الإرهاب” أم من “الجهل” بتعريفه؟ وكما قال طه حسين: “الحق يُعرف لا بأنك تسمعه، بل بأنك تُفكّر فيه”.


لمزيد من البحث :

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى