الزرادشتية: شُعلةُ الحكمة التي أضاءت عُصورًا

هل خطرَ ببالك أن “الزرادشتية” — ذلك الاسمُ الغريبُ المقطع — قد يكون مفتاحًا لفهمِ جذورِ التوحيدِ في العالم؟ نعم، إنها ديانةٌ وُلدتْ من رحمِ النيرانِ والنجومِ في فارسَ القديمة، وحملتْ بذورَ الأفكارِ التي نعيشُ عليها اليوم! فما قصةُ هذا الاسمِ العتيق؟ وكيف تحوّلَ من “زاراثوشترا” إلى رمزٍ للصراعِ بين النورِ والظلام؟ دعنا نَسْرِدُ حكايةَ الزرادشتيةِ كما لو كانت ملحمةً أسطوريةً، لكنها حقيقيةٌ مدهشة!
الفصل الأول: أصلُ الاسم.. عندما تُخلَدُ الحكمةُ في حروفٍ!
“زاراثوشترا”.. اسمٌ يترددُ كصدىً في وديانِ إيرانَ القديمة! في اللغة الأڤستية، “زاريا” تعني الذهبَ أو النورَ، و”أوشترا” هو الجملُ، فكأنما اسمُه “حاملُ النورِ الذهبي” أو “راعي الجمالِ”! لكن هل كان زرادشتُ مجردَ راعٍ للجمالِ أم راعيًا للبشريةِ؟!
العجيبُ أن اسمَه تشظّى عبرَ الثقافاتِ كمرآةٍ تكسرُها الألسنُ: “زوروآستر” عند اليونان، و”زرتشت” عند الفرس، و”زرادشت” عند العرب! وكأنما أرادت الأقدارُ أن يتعددَ الاسمُ ليُوحِّدَ المعنى: فالنورُ لا يُحَدُّ بلسانٍ!
أما “الزرادشتية”، فهي نسبةٌ إلى هذا النبيِّ الغامض، لكنها تحملُ في طياتِها فلسفةً ثائرةً: فـ”مازديسنة” — اسمٌ آخرُ للديانة — تعني “عبادةَ الحكمة”، لأن “أهورا مازدا” هو إلهُ النورِ والحكمةِ المطلقة! ترى، أليسَ من الجميلِ أن تتحولَ كلمةٌ بسيطةٌ إلى عنوانٍ لثورةٍ دينيةٍ غيرتْ وجهَ التاريخ؟
الفصل الثاني: التاريخ.. رحلةٌ من النبوةِ إلى الاضطهاد!
في القرنِ السادسِ قبل الميلاد، وفي أرضِ فارسَ التي كانت تعجُّ بعبادةِ الأصنامِ، يظهرُ رجلٌ يُدعى زرادشتُ، مدعيًا أن النورَ الإلهيَّ تجلّى له بينما كان يشربُ من نهرٍ! هكذا بدأتِ الرحلةُ: فمن غموضِ الرؤيا، وُلدتْ عقيدةٌ جديدةٌ تُحاربُ الظلامَ!
لكنَّ الزرادشتيةَ لم تكن مجردَ دعوةٍ روحيةٍ، بل أصبحتْ دينَ الإمبراطورياتِ العظيمةِ! فتحت حُكمِ كورش الكبير (550 ق.م)، اعتنقتْها الإمبراطوريةُ الأخمينيةُ، ثم ازدهرتْ كالنارِ في عصرِ الساسانيينَ (224–651 م)، حيث بُنيتْ معابدُ النارِ الشامخةُ، وكُتبتْ “الأڤيستا” بلغةٍ مقدسةٍ تكادُ تكونُ نسخةً من السماءِ!
لكنَّ القدرَ كان قاسيًا: مع الفتحِ الإسلاميِ لإيرانَ، تحوّلَ الزرادشتيونَ إلى أقليةٍ مُضطهدةٍ. هربَ بعضُهم إلى الهندَ حاملينَ جمرَ إيمانِهم، لِيُسَمّوا “البارسيين” (أي الفرسَ)، بينما اختبأَ آخرونَ بين جبالِ إيرانَ. ترى، كم معبدًا دُمّر؟ وكم مخطوطةً أُحرقت؟ لكنَّ الشعلةَ لم تنطفئ!
الفصل الثالث: العقيدة.. حينَ يصيرُ الإنسانُ إلهًا صغيرًا!
الزرادشتيةُ ليستْ دينًا، بل فلسفةٌ وجوديةٌ! فهي تقولُ لك: “أنت حُرٌّ.. حرٌ في اختيارِ طريقِ النورِ أو الظلامِ!” نعم، إنها أولُ ديانةٍ تُقدسُ حريةَ الإرادةِ، وتجعلُ من الإنسانِ شريكًا للإلهِ في خَلقِ العالمِ!
أهورا مازدا — إلهُ الحكمةِ — لا يحكمُ كطاغيةٍ، بل يُنازعُه “أهريمان” (إلهُ الشرِّ) في معركةٍ كونيةٍ. لكنَّ الزرادشتيةَ تُجيبُ على السؤالِ الأزليِّ: “لماذا يوجد شرٌّ؟” بقولها: “الشرُّ اختبارٌ، ووجودُه ضرورةٌ لاختيارِ الخيرِ!” أليسَ هذا أشبهَ بلعبةٍ إلهيةٍ كُبرى؟!
ولأن الزرادشتيَّ مُلزَمٌ بالخيرِ، فقد وضعوا ثلاثَ وصايا ذهبيةٍ:
- فكّرْ بخيرٍ: فلا مكانَ للكراهيةِ في عقلِ المؤمنِ.
- تكلّمْ بخيرٍ: فالكلمةُ الطيبةُ صدقةٌ.
- اعملْ بخيرٍ: فالعملُ هو جوازُ المرورِ إلى الجنةِ!
أما يومُ القيامةِ، ففيه تُوزنُ الأعمالُ على “جسرِ تشينفات”، حيث تُحاسبُ الروحُ على كلِّ ذرةِ شرٍّ! فإما أن تعبرَ إلى “دارِ النورِ” — حيث الأنهارُ من العسلِ — أو تسقطَ في “دارِ الظلامِ” الأبديِ! ترى، أليسَ هذا التشبيهُ مألوفًا في دياناتِ اليومِ؟
الفصل الرابع: الطقوس.. عندما تصيرُ النارُ لغةً بين الأرضِ والسماء!
يظنُّ الكثيرونَ أن الزرادشتيينَ يعبدونَ النارَ! لكن الحقيقةَ تُشبهُ سحرًا: النارُ هنا ليست إلهًا، بل “رسولٌ” ينقلُ الصلواتِ! في معابدِهم المُظلمةِ، تُحفظُ النارُ المقدسةُ — التي لا تُطفأُ منذ قرونٍ — كجسرٍ بين البشرِ والسماءِ. حتى أنهم يقدسونُ العناصرَ الأربعةَ (النار، الماء، الهواء، التراب)، فيمنعونَ إلقاءَ الجثثِ فيها، لذا يتركونَها في “أبراجِ الصمتِ” لتأكلَها النسورُ!
لكنَّ الأكثرَ إثارةً هو كتابُهم المقدسُ “الأڤيستا”، الذي يُشبهُ ترانيمَ سماويةً. أقدمُ فصولِه — “الجاتها” — يُنسبُ لزرادشتَ نفسه، وكأنه يهمسُ لك عبرَ ثلاثةِ آلاف عامٍ: “اخترِ النورَ، فالحياةُ معركةٌ!”
أما عن المرأةِ، فقد كانتْ — ولا تزال — شريكةَ الرجلِ في العبادةِ. في الزواجِ، يُربطُ العروسانِ بشريطٍ أبيضَ تحتَ النجومِ، كرمزٍ للعهدِ الأبديِ. حتى أن التاريخَ يذكرُ كاهناتٍ زرادشتياتٍ قُدنَ الطقوسَ في العصورِ الأولى! فهل تُصدقُ أن دينًا قديمًا كهذا سبقَ عصرَنا في المساواةِ؟
الفصل الخامس: الزرادشتيةُ والإسلام.. لقاءُ الأديانِ على جسرِ التاريخ!
“المجوسُ لهم حكمُ أهلِ الكتابِ!” — هكذا قال النبيُّ محمدٌ ﷺ، وفقًا لروايةِ البخاريِّ. نعم، لقد تعاملَ الإسلامُ مع الزرادشتيينَ باحترامٍ، لأنهم — كالمسلمينَ — يُوحّدونَ الإلهَ، ويؤمنونَ بالحسابِ الأخيرِ. بل إن مفاهيمَ كالجنةِ، النارِ، والشيطانِ انتقلتْ من الزرادشتيةِ إلى اليهوديةِ، ومنها إلى الإسلامِ!
لكنَّ الفرقَ جوهريٌّ: النارُ في الزرادشتيةِ رمزٌ للطهارةِ، أما في الإسلامِ فهي عقابٌ. وثنائية (الخيرُ والشرُّ كقوتين مستقلتينِ) تتعارضُ مع رؤيةِ الإسلامِ للشرِّ كجزءٍ من مشيئةِ اللهِ. فهل يعني هذا أن الأديانَ تتشابهُ حينَ تكونُ الحقيقةُ واحدةً، وتختلفُ حينَ تتنوعُ الثقافاتُ؟
الفصل السادس: الأسئلة الشائعة حول الزرادشتية
هل الزرادشتيةُ ديانةٌ سماويةٌ؟
الجوابُ يعتمدُ على منظورِك! فالبعضُ يرى أن زرادشتَ نبيٌّ حقيقيٌّ، بينما يعتبرُه آخرونَ فيلسوفًا. لكنَّ القرآنَ لم يذكرْه صراحةً، رغم إشارةِ بعضِ المفسرينَ إلى أن “المجوسَ” من أهلِ الكتابِ.
ماذا عن الصيامِ والعباداتِ؟
لا صيامَ في الزرادشتيةِ بالمعنى الإسلاميِّ، لكنهم يَمتنعونَ عن أكلِ اللحومِ أيامَ تكريمِ الكواكبِ! أما صلاتُهم، فهي تراتيلُ تُنشدُ خمسَ مراتٍ يوميًا أمامَ النارِ.
لماذا يكادُ ينقرضُ الزرادشتيونَ؟
أعدادُهم اليومَ لا تتجاوزُ 200 ألفٍ، بسببِ زواجِهم خارجَ المجتمعِ، وانخفاضِ المواليدِ. حتى أن “أبراجَ الصمتِ” باتتْ مُهملةً في إيرانَ، بعد أن حظرتْها الحكومةُ! ترى، هل ستُضاءُ شعلتُهم مرةً أخرى، أم سيصيرونَ أسطورةً؟
الخاتمة: هل نُعيدُ إشعالَ شعلةِ زرادشتَ؟
في زمنِنا هذا — حيثُ يتصارعُ الخيرُ والشرُّ في كلِّ مكانٍ — تهمسُ لنا الزرادشتيةُ: “لا تيأسوا، فالنورُ قادرٌ على الانتصارِ!” لقد علّمتنا أن الأخلاقَ أقوى من الأسلحةِ، وأن الإنسانَ — رغم ضعفِه — قادرٌ على تغييرِ مصيرِ العالمِ!
فهل نستطيعُ اليومَ — ونحن نحملُ هواتفَنا الذكيةَ — أن نقتديَ بذلك الراعيِ الفارسيِّ الذي حوّلَ النارَ إلى رمزٍ للأملِ؟ الجوابُ — بكلِّ تأكيدٍ — نعم! فما دامتْ كلمةُ “أفكارٌ طيبةٌ” موجودةً، فشعلةُ زرادشتَ لن تنطفئَ أبدًا!
مراجعُ :
- الزرادشتية المجوسية.. ديانة للفرس اندثرت على يد الصحابة تعود من جديد
- موقع Encyclopaedia Iranica للمقالاتِ الأكاديميةِ.
ملاحظةٌ أخيرةٌ:
لو قرأتَ هذا المقالَ كأنه روايةٌ، فاعلمْ أن كلَّ كلمةٍ فيه حقيقيةٌ! فالزرادشتيةُ — كالنارِ — لا تُطفئها الرياحُ، بل تُشعلُها!