المصطلحات

تعريف البدعة لغة واصطلاحًا: شرح شامل من المذاهب الأربعة إلى ابن عثيمين

هل يُمكن أن يكون “الجديد” في الدين جسرًا إلى الجنّة أو حاجزًا عنها؟ سؤالٌ يَستدعي منّا وقفةً أمام كلمةٍ تَردّد صداها عبر القرون؛ كلمة “البدعة”، التي صارت مِحورًا لسِجالاتٍ فقهيةٍ وفكريةٍ تَمسّ صميم حياة المسلم. فما أصل هذه الكلمة؟ وكيف تَشكّلت دلالاتها بين لغة العرب واصطلاح الفقهاء؟ هذا ما سنَسبر أغواره في رحلةٍ نَستحضر فيها آراء الأئمة من المذاهب الأربعة، ونناقش فيها تباينَ النظرة بين ابن عثيمين والشاطبي، مُضيئين زوايا المُصطلح التي ما تزال تُثير الجدل حتى يومنا هذا.


الفصل الأول: البدعة في ميزان اللغة والشرع

لِكُلِّ لفظةٍ جذرٌ تَنبت منه، و”البدعة” تَفرّعت من الفعل “ابتدع”، الذي يَعني في لغة العرب: “اخترع شيئًا لم يَسبق إليه”. قال الجوهري في “الصحاح”: “ابتدع الشيءَ: اخترعه لا على مِثال”. لكنّ الشرع أضفى على الكلمة حُكمًا خاصًا؛ فلم يَعُد الابتكار مُجرّد إحداثٍ مادي، بل صار مِقياسًا لِما يُوافق النصوص أو يُخالفها.
وها هنا تَنبثق الإشكالية: فبينما تَمدح اللغةُ الابتكارَ في العِلم والصّناعة، يُحذِّر الشرعُ من “الابتداع” في الدين. يقول الإمام الشافعي: “مَن استَحسنَ فقد شَرَع”، وكأنّه يَربط بين حُسن الظنّ بالبدعة وتَجاوز السُّلطة التشريعية.

جدول مقارن:

المعيارالبدعة اللغويةالبدعة الشرعية
المفهومإحداث أي شيء جديدإحداث في الدين دون دليل
الحُكمقد يكون محمودًاغالبًا مذموم
الأمثلةاختراع الطائرةالصلاة بأذكار مُبتدَعة

الفصل الثاني: المذاهب الأربعة.. رؤى متقاطعة تحت مظلة الإسلام

إذا كان الفقه مَيدانًا للاجتهاد، فإنّ “البدعة” كانت مِن أكثر المسائل التي اختلفت فيها أنظار الأئمة، حتى صار لكل مذهبٍ نَهجٌ في التصنيف:

1. المالكية: بين الحُسنى والضَّلالة

يرى الإمام مالك أنّ “ما لَم يُعهَد في عصر النبي بدعة”، لكنّه قسّمها إلى حسنة وسيئة، استنادًا إلى قول عمر بن الخطاب في صلاة التراويح جماعة: “نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ”. فبناء المدارس -مثلًا- بدعةٌ حسنةٌ لأنّها تُحقق مصلحةً تعليميةً دون مُخالفة النصوص.

2. الشافعية: الحَظر ما لم يَنُصّ عليه الوحي

يُشدِّد الشافعية على أنّ العبادات توقيفية، فكل ما لَم يَرِد في القرآن أو السُّنة فهو بدعة. ومع ذلك، يَستثني بعض فقهائهم أمورًا مثل كتابة الحديث، باعتبارها وسيلةً لحفظ الشريعة.

3. الحنفية: المِقياس هو مُخالفة الأصول

ينظر أبو حنيفة إلى “الابتداع” عبر مدى اتّفاقه مع أصول الشريعة. فلو أَحدث الناسُ عادةً اجتماعيةً لا تُناقض القواعد الكُلية (كالاحتفاء بالأعياد المحلية)، فهي ليست بدعةً مَذمومة.

4. الحنابلة: الحَسم مع كلِّ مُحدَث

يَذهب ابن حنبل إلى أنَّ “كل بدعةٍ ضلالة”، مُستندًا إلى الحديث النبوي. لكن تلاميذه كابن تيمية ميّزوا بين البدعة الإضافية (كالتقليد في العبادات) والبدعة التَّركية (كترك سُنن ظنًّا بتحريمها).


الفصل الثالث: الشاطبي وابن عثيمين.. صراع المنهجين

الشاطبي: البدعة اختراعٌ يُضاهي الشريعة

في كتابه “الاعتصام”، يُعرِّف الشاطبي البدعة بأنها “طريقة في الدين مُخترعة، تُضاهي الشريعة، يُقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبّد”. ولذلك يَرفض تقسيم البدع إلى أحكامٍ خمسة، قائلًا: “لو كانت لها جهةُ استحسانٍ لَما تركها النبي”.

ابن عثيمين: الابتداع انتقاصٌ من الشريعة

يُحذِّر الشيخ ابن عثيمين في “مجموع الفتاوى” من التوسع في مفهوم البدعة الحسنة، ويقول: “لو كان فيها خيرٌ لَسبقنا إليه السلف الصالح”. ويُؤكِّد أنّ البدعة “هي التعبُّد لله بما لم يشرعه”، سواءٌ أكانت عبادةً جديدةً أم زيادةً في المُقرّر.


الفصل الرابع: هل كل بدعةٍ حرام؟.. تفكيك الإشكالية عبر التاريخ

التقسيم الخماسي للبدع (للإمام النووي)

قسّم النووي البدع إلى:

  1. واجبة: كتعلم النحو لفهم القرآن.
  2. مندوبة: كبناء المدارس.
  3. مباحة: كالتوسع في المأكولات.
  4. مكروهة: كتزيين المساجد بشكلٍ مُبالغ.
  5. محرمة: كالاحتفاء بأيام الصوفية المبتدَعة.

الرأي المُعارض: البدعة ضلالةٌ مطلقًا

ينتقد ابن تيمية هذا التقسيم، ويُشبّهه بـ”إدخال السّمّ في العسل”، ويستدل بحديث: “مَن أَحدثَ في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ”.

أمثلة حية من التراث الإسلامي:

  • بدعة محمودة: جمع القرآن في مصحف واحد في عهد أبي بكر.
  • بدعة مذمومة: الاحتفال بالمولد النبوي (ظهر في القرن الرابع الهجري).

الأسئلة الشائعة:

س: هل يجوز الاحتفال بالمناسبات الدينية كالمولد النبوي؟

  • ج: اختلف الفقهاء:
  • الجمهور: بدعةٌ مذمومة (استنادًا إلى الحديث: “لا تَزِيدوا على ما فعلتُ”).
  • بعض المالكية: جائزة إذا خَلت مِن منكرات.

س: ما الفرق بين البدعة في العبادات والعادات؟

  • ج: العبادات مبنية على التوقيف، فالإحداث فيها حرام. أما العادات فالأصل فيها الإباحة ما لَم تُخالف الشرع.

الخاتمة:

إنّ البدعة ليست كلمةً تُلقى جزافًا، بل هي مفهومٌ يَستدعي غَربلةَ النوايا والمقاصد. فكما أنّ الإسلام حذّر من “إغلاق باب الاجتهاد”، فإنّه أيضًا نَهى عن “فتح باب الابتداع”. ولعلّ في قول عمر بن الخطاب عن التراويح “نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ” إشارةً إلى أنَّ الاجتهاد البشري قد يُصيب أحيانًا، لكنّ المقياس الأكبر يَبقى هو الاتّباع لا الابتداع. فهل نُحسن الاستماع إلى هذا الصوت الخفيّ الذي يهمس: “دينُ الله لا يُصلحه إلا ما أصلحه أول مرة”؟


المراجع:

  • “الاعتصام” للشاطبي.
  • “مجموع فتاوى ابن عثيمين”.
  • “بدائع الصنائع” للكاساني (حنفي).
  • “المدخل” لابن الحاج (مالكي).

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى