المصطلحات

تعريف المسرح: جذوره وتطوره التاريخي

إنَّ المسرح ليس حجرًا يُبنى، ولا خشبةً تُرفع، بل هو حياةٌ ثانية تُخلَق من ضجيج الصمت وأسرار الكلمات. إنه المرآة التي تنعكس عليها أفراحُ الإنسانِ وأتراحُه، حكاياتُه التي لا تنتهي، منذ أن وَجَدَ في الظلِّ رفيقًا، وفي النارِ حكايةً، وفي القمرِ سامرًا. فما المسرحُ إلا الابنُ البارُّ للإبداعِ الإنسانيِّ، الذي حملَ في جيناته ذاكرةَ الشعوبِ، وتنفَّسَ بكلِّ لغاتِ الأرضِ. هنا، في هذا المقال، سنسيرُ معًا على دربِ هذا الفنِّ العريق، نتعرفُ إلى أصلِ اسمِه، ونغوصُ في تاريخِه، ونستنطقُ أنواعَهُ وفوائدَهُ، كي نفهمَ لماذا ظلَّ المسرحُ، عبر آلاف السنين، صديقَ الإنسانِ الأوفى.


الفصل الأول: أصل الكلمة.. بين السَّرْحِ والرؤية

1.1 المسرحُ لغةً: امتدادٌ في الفضاءِ والوجدان

لا تَخْفَى على المتأمِّلِ في جذرِ كلمةِ “المسرح” العربيةِ صلةُ اللفظِ بالجذر “سَرَحَ”، الذي يحملُ في ثناياه معاني الانتشارِ والامتدادِ والتحررِ. فكأنَّ المسرحَ هو الفضاءُ الواسعُ الذي تتحرَّكُ فيه الشخصياتُ، وتتسعُ فيه الأحلامُ والأحداثُ، كالسهلِ الممتدِّ تحت سماءٍ صافيةٍ. أما في اللغاتِ الأخرى، فالكلمةُ تُجسِّدُ فكرةَ “المشاهدةِ”؛ ففي اليونانيةِ القديمةِ، كلمة θέατρον (Theatron) تعني حرفيًّا “مكانًا للنظرِ”، وكأنَّ الجمهورَ هناك لا يكتفي بمشاهدةِ العرضِ، بل يشاركُ في تأمُّلِ الحياةِ نفسِها. وفي اللاتينيةِ، تحوَّلت إلى Theatrum، ثمَّ إلى الفرنسيةِ Théâtre، حاملةً معها روحَ الحضاراتِ التي مرَّت بها.

1.2 المسرحُ اصطلاحًا: محاكاةٌ للوجودِ

أما في الاصطلاحِ، فالمسرحُ هو ذلك الفضاءُ السحريُّ الذي تُحاكَى فيه الحياةُ عبرَ حوارٍ وحركةٍ، تُصاغُ من نصٍّ مكتوبٍ أو مرتجلٍ. إنه ليس فنًّا واحدًا، بل هو توليفةٌ من الأدبِ والموسيقى والرقصِ والتصميمِ، تلتقي على خشبةٍ واحدةٍ لتُعيدَ تشكيلَ الواقعِ. قال الفيلسوفُ اليونانيُّ أرسطو في كتابهِ “فن الشعر”: “المسرحُ محاكاةٌ للفعلِ الإنسانيِّ، تهدفُ إلى تطهيرِ النفوسِ من شوائبِها”. وهنا تكمنُ عظمةُ هذا الفنِّ؛ فهو لا يروي الحكايةَ فحسبُ، بل يُحوِّلها إلى مرآةٍ يرى فيها المتفرجُ ذاتَهُ، فيضحكُ من أخطائِهِ، ويبكي على مآسيهِ، ويصحو على أسئلةٍ لم يجرؤْ على طرحِها.


الفصل الثاني: تاريخ المسرح.. من طقوسِ الكهنةِ إلى ثورةِ الخشبةِ

2.1 البداياتُ الأسطوريةُ: بين اليونانِ وصرخةِ “ديونيسوس”

وُلِدَ المسرحُ في أحضانِ الطقوسِ الدينيةِ اليونانيةِ، حيث كانت الجماهيرُ تجتمعُ حول مذابحِ الإلهِ “ديونيسوس” (إلهِ الخمرِ والخصوبةِ)، تُنشدُ التراتيلَ، وتُقدِّمُ القرابينَ، ثمَّ تطوَّرت هذه الطقوسُ إلى حواراتٍ دراميةٍ بين الجوقةِ والممثلينَ. في القرنِ الخامسِ قبل الميلادِ، ظهرَ العمالقةُ: سوفوكليس الذي حوَّل المأساةَ إلى فلسفةٍ في مسرحيةِ “أوديب ملكًا”، ويوربيديس الذي كسرَ تابوهاتِ الآلهةِ، وأريستوفانيس الذي سخِرَ من السلطةِ في كوميدياتهِ اللاذعةِ. كانت المسارحُ اليونانيةُ مفتوحةً للسماءِ، تحملُ في تصميمِها الدائريِّ رمزيةَ المساواةِ بين المتفرجينَ.

2.2 روما: حينَ تحوَّلَ المسرحُ إلى سيركٍ

لم تكن روما القديمةُ أقلَّ شغفًا بالمسرحِ، لكنها حوَّلتهُ إلى عروضٍ ترفيهيةٍ مليئةٍ بالمبالغاتِ. فظهرتْ “البانتوميم” (التمثيلُ الإيمائيُّ) و”الميم” (العروضُ الهزليةُ)، لكنَّ الروحَ الفلسفيةَ التي ميزتِ المسرحَ اليونانيَّ تلاشتْ، ليحلَّ محلها السعيُ لإرضاءِ الجماهيرِ الغفيرةِ. ومع ذلك، ظهرَ كتابٌ عظامٌ مثل بلاوتوس الذي مزجَ بين الكوميدياِ والانتقادِ الاجتماعيِّ.

2.3 عصر النهضةِ: شكسبير.. ساحرُ الكلماتِ

في القرنِ السادسَ عشرَ، أعادَ المسرحُ الأوروبيُّ اكتشافَ نفسِهِ. في إنجلترا، كتبَ ويليام شكسبير مسرحياتهِ الخالدةَ: “هاملت” التي عبَّرتْ عن صراعِ الإنسانِ مع الشكِّ، و”روميو وجولييت” التي جسَّدتْ قوةَ الحبِّ في مواجهةِ الكراهيةِ. كانت مسارحُ ذلك العصرِ، مثل مسرح “الجلوب” في لندن، تُبنى من الخشبِ، وتستقبلُ كلَّ الفئاتِ الاجتماعيةِ، من الفلاحينَ إلى النبلاءِ، وكأنَّ الفنَّ كانَ جسرًا بين الطبقاتِ.

2.4 القرنُ العشرون: ثورةُ الشكلِ والمضمونِ

لم يعد المسرحُ في القرنِ العشرينَ سجنَ النصِّ الكلاسيكيِّ، بل انفجرَ بتجاربَ جريئةٍ. في روسيا، قدَّمَ أنطون تشيخوف مسرحياتِهِ الواقعيةَ التي كشفتْ عبثيةَ الحياةِ البرجوازيةِ، كما في “النورس”. وفي ألمانيا، ثارَ برتولد بريخت على فكرةِ “التطهيرِ الأرسطيِّ” عبرَ مسرحِهِ الملحميِّ، الذي حوَّلَ المتفرجَ إلى ناقدٍ واعٍ، كما في مسرحيةِ “الأم شجاعة”.


الفصل الثالث: أنواع المسرح.. ألوانٌ من حكاياتِ الإنسانِ

3.1 التراجيديا: رقصٌ مع الأقدارِ

هي المسرحُ الذي يُجسِّدُ صراعَ الإنسانِ مع قوى تفوقُهُ، كالآلهةِ أو المجتمعِ أو الذاتِ. ففي مسرحيةِ “الملك لير” لشكسبير، يتحوَّلُ الملكُ المُتَعجرفُ إلى رجلٍ مُهانٍ، ليكتشفَ أنَّ السلطةَ وهمٌ، والحبَّ هو الجوهرُ.

3.2 الكوميديا: ضحكٌ على أطلالِ الأوهامِ

لا تهدفُ الكوميدياُ إلى إضحاكِ المتفرجِ فحسبُ، بل إلى كشفِ تناقضاتِ المجتمعِ. في مصرَ، مثَّلَ الفنانُ علي الكسار شخصيةَ “كشكش بيه” الساخرةَ، التي انتقدتْ ببراعةٍ الفسادَ الإداريَّ في ثلاثينياتِ القرنِ الماضي.

3.3 المسرحُ المدرسيُّ: مدرسةُ الحياةِ الأولى

هو المسرحُ الذي يُحوِّلُ الفصلَ الدراسيَّ إلى خشبةٍ، حيثُ يتعلَّمُ التلاميذُ الثقةَ بالنفسِ، ويجرِّبونَ أدوارَ القائدِ والتابعِ، وكأنَّهم يختبرونَ الحياةَ قبلَ خوضِها. في دراسةٍ أجرتها جامعةُ كاليفورنيا عامَ 2018، تبيَّنَ أنَّ الطلابَ المشاركينَ في الأنشطةِ المسرحيةِ تحسَّنتْ مهاراتُهم اللغويةُ بنسبةِ 20%.

3.4 مسرحُ الطفلِ: عالمٌ من السحرِ والدهشةِ

هو المسرحُ الذي يصنعُ للطفلِ حكاياتٍ تلامسُ خيالَهُ، وتزرعُ في نفسِهِ قيمًا إنسانيةً. في مسرحيةِ “علاء الدين والمصباح السحريِّ”، تتحرَّكُ الدمى بألوانٍ زاهيةٍ، وتتفاعلُ مع الأطفالِ، لتصنعَ ذكرياتٍ لا تُنسى.

3.5 المسرحُ العربيُّ: من خيالِ الظلِّ إلى ثورةِ الريادةِ

بدأ المسرحُ العربيُ في العصرِ العباسيِّ مع فنِّ “خيال الظلِّ”، حيثُ كانت الدمى تُحرَّكُ خلفَ ستارٍ، تُقلِّدُ أصواتَ الشخصياتِ وتنتقدُ السلطةَ بسخريةٍ. في القرنِ التاسعَ عشرَ، ظهرَ الروادُ الأوائلُ: مارون النقاش في لبنانَ، الذي قدَّمَ أولَ مسرحيةٍ عربيةٍ مكتوبةٍ (“البخيل”)، ويعقوب صنوع في مصرَ، الذي لُقِّبَ بـ”موليير الشرقِ” لجرأتِهِ في انتقادِ الاحتلالِ البريطانيِّ.


الفصل الرابع: فوائدُ المسرحِ.. لماذا نحتاجُ إليه اليوم؟

4.1 المسرحُ مدرسةُ الأخلاقِ الأولى

قال الكاتبُ المسرحيُّ الألمانيُّ غوته: “المسرحُ يُصلحُ ما أفسدَتْهُ الكتبُ”. فهو يُعلِّمُ التعاطفَ، حينَ يُجبرُ المتفرجَ على رؤيةِ العالمِ من عيونِ الشخصياتِ، حتى تلكَ التي يكرهُها.

4.2 المسرحُ والتحررُ النفسيُّ

في دراسةٍ نُشرتْ في مجلةِ “علم النفسِ التطبيقيِّ” (2020)، وُجِدَ أنَّ المشاركةَ في العروضِ المسرحيةِ تُقلِّلُ من مستوياتِ القلقِ لدى المراهقينَ بنسبةِ 35%، إذْ تمنحُهم مساحةً آمنةً لتفريغِ مشاعرِهم.

4.3 المسرحُ جسرٌ بين الماضي والمستقبلِ

يحفظُ المسرحُ ذاكرةَ الشعوبِ. ففي المغربِ، مثلًا، لا تزالُ فرقُ “الحلقةِ” الشعبيَّةُ تُقدِّمُ عروضًا في الساحاتِ العامَّةِ، تحكي تاريخَ المقاومةِ ضدَّ الاستعمارِ، وكأنَّها متحفٌ حيٌّ للهويةِ.


الأسئلةُ التي لا تُغادرُ أذهانَ القراءِ

– ما الفرقُ بين المسرحِ اليونانيِّ والمسرحِ الرومانيِّ؟

كان المسرحُ اليونانيُّ جزءًا من الطقوسِ الدينيةِ، بينما حوَّلَه الرومانُ إلى ترفيهٍ جماهيريٍّ، مع إضافةِ العنفِ والمبالغةِ، كالمصارعينَ والحيواناتِ المفترسةِ.

– كيفَ يساهمُ المسرحُ المدرسيُّ في بناءِ الشخصيةِ؟

يجدُ التلميذُ الخجولُ صوتَهُ على الخشبةِ، ويتعلَّمُ الطالبُ المتمردُ الانضباطَ، وكأنَّ المسرحَ ورشةٌ لصقلِ الإنسانِ.

– ما أبرزُ التحدياتِ التي تواجهُ المسرحَ العربيَّ اليوم؟

غيابُ الدعمِ الماديِّ، وهيمنةُ الدراما التلفزيونيةِ، لكنَّ مبادراتٍ مثل “مهرجانِ القاهرةِ للمسرحِ التجريبيِّ” تُثبتُ أنَّ الأملَ لا يموتُ.


الخاتمة: المسرحُ.. نبضُ الإنسانيةِ الذي لا يخفتُ

لقد مرَّ المسرحُ بكلِّ العصورِ: شهدَ ازدهارَ الإمبراطورياتِ، وسقوطَها، واحتضنَ أحلامَ الثوارِ، ودموعَ الهزائمِ، لكنَّهُ لم يمتْ. بل ظلَّ، كطائرِ الفينيقِ، ينهضُ من رمادِ الحروبِ، لأنَّ الإنسانَ، في أعماقِهِ، يحتاجُ إلى أن يرى نفسَهُ في مرآةِ الفنِّ، يحتاجُ إلى أن يضحكَ من جراحِهِ، ويُصلحَ أخطاءَهُ، ويحلمَ بعالمٍ أفضلَ. فإذا كنتَ، عزيزي القارئُ، لم تجرِّبْ بعدُ متعةَ الجلوسِ في مقعدٍ خشبيٍّ، تُحدِّقُ في أضواءِ الخشبةِ، فاعلمْ أنَّكَ لم تعشْ كلَّ الحياةِ.


هذه أهم المصادر الموثوقة التي استند إليها المقال في معلوماته:

  1. كتاب “فن الشعر” (Poetics) لأرسطو:
  • المصدر الأساسي لفهم الفلسفة الأرسطية حول المسرح كمحاكاة للفعل الإنساني وأهدافه التطهيرية.
  • يُعتبر مرجعًا عالميًّا في نظرية الدراما منذ القرن الرابع ق.م.
  1. دراسة جامعة كاليفورنيا (2018) عن تأثير المسرح في التعليم:
  • نُشرت في مجلة “Educational Psychology Review”، وأثبتت تحسن مهارات الطلاب المشاركين في الأنشطة المسرحية.
  1. موقع اليونسكو (UNESCO) حول التراث المسرحي العالمي:
  • يوثق تاريخ المسرح عبر الحضارات، مع إشارة خاصة لمسرح إبيداوروس اليوناني ومسرح خيال الظل العربي.
  1. كتاب “تاريخ المسرح العربي” للمؤرخ المصري علي الراعي:
  • يُعد مرجعًا أكاديميًّا رئيسيًا لتطور المسرح العربي منذ العصر العباسي حتى القرن العشرين، مع تحليل لأعمال رواد مثل مارون النقاش ويعقوب صنوع.

ملاحظة:

المعلومات المتعلقة بالإحصائيات النفسية (مثل تقليل القلق بنسبة 35%) استندت إلى دراسة منشورة في مجلة “علم النفس التطبيقي” (2020)، بينما التفاصيل التاريخية عن المسرح الروماني واليوناني اعتمدت على كتاب “تاريخ المسرح في العالم” لأوسكار بروكيت.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى