
لا يكتفي القرآن الكريم بأن يكون كتابَ هداية، بل هو أيضًا لوحةٌ فنيّةٌ تلتقي فيها الكلماتُ لتُشكِّلَ صورًا تَعْجِزُ عنها أقلامُ البلغاء. ومن بين هذه الكلماتِ المُعجِزة، تبرزُ عبارة “نمارق مصفوفة” في سورة الغاشية، كأنها نغمٌ يتردَّدُ بين جنبات الجنة، يُغازلُ الأسماعَ ويستفزُّ الأذهانَ لِتُدركَ سرَّ جماله. فما قصة هذه العبارة؟ وكيف تحوَّلتْ وسائدُ الجنة إلى درسٍ في اللغةِ والتفسيرِ والجمال؟
الفصل الأول: في أعماق اللغة.. حين تُولد الكلمات من أحشاء التاريخ
1. نمارق: وسائدُ الملوك وأسرارُ الاشتقاق
لو سألتَ لسانَ العرب عن “النُّمرُقة”، لَأجابَكَ أنها الوسادةُ الصغيرةُ المُزيَّنةُ بالرسوم، كتلك التي تُوضَعُ على الأرائكِ لِتُزيِّنَ مجالسَ الأكابر. فهي مُشتقةٌ من الجذر “ن م ر ق”، الذي يحملُ في طياته معنى الزخرفةِ والترف. وكأنَّ القرآنَ يَصِفُ لنا نعيمَ الآخرةِ بلغةِ الدنيا، ليُقرِّبَ الصورةَ إلى أذهانِ السامعين.
ولم تكن “النمارق” غريبةً عن الشعراءِ قبل الإسلام، فقد تغنَّت بها هند بنت عتبة:
نحن بنات طارق
نمشي على النمارق
فهنا تتحولُ النمارقُ إلى رمزٍ للجمالِ والرفاهية، وكأنها فُسيفساءُ الحياةِ الفاخرة.
2. مصفوفة: انتظامٌ يُذكِّرُ بحكمةِ الصانع
أما “المَصْفُوفة”، فهي مِن الفعل “صَفَّ”، الذي يُجسِّدُ نظامًا لا تشوبه فوضى. فالصفُّ ليس مجرد ترتيبٍ للأشياء، بل هو تعبيرٌ عن إتقانٍ يليقُ بجمالِ صنعِ الله. ففي الجنةِ، حيثُ لا مكانَ للعشوائية، تُصَفُّ النمارقُ كَتَرتيبِ النجومِ في السماء، أو كَتَناسقِ حباتِ العقدِ المُتلألئة.
جدولٌ يلخِّصُ التحليلَ اللغويَّ للعبارة:
الكلمة | الجذر | المعنى الحرفي | الدلالة القرآنية |
---|---|---|---|
نمارق | ن م ر ق | وسائد مُزخرفة صغيرة | ترمز إلى رفاهية الجنة |
مصفوفة | ص ف ف | مُرتَّبة في صفوفٍ منتظمة | تعكس إتقانَ الخلقِ والنظام |
الفصل الثاني: في رحاب سورة الغاشية.. حيثُ تتجلى الصورةُ القرآنية
1. سورة الغاشية: مشهدٌ كونيٌّ بين العذابِ والنعيم
تتناول السورةُ مشهدَ القيامةِ بتفصيلٍ مُرعبٍ للكافرين، ومُبشِّرٍ للمؤمنين. فبعد أن تصفَ وجوهَ الظالمينَ وهي “عابسةٌ”، تنتقلُ فجأةً إلى وصفِ نعيمِ الأبرار:
﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ﴾ (الغاشية: 8-16).
هنا تتحولُ الآياتُ إلى سيمفونيةٍ من الصور: عيونٌ جارية، وسُرُرٌ مرفوعة، وأكوابٌ لا تنتهي، ثم تأتي “النمارق المصفوفة” لتُكملَ المشهدَ بلمسةٍ من الفخامةِ المُنتظمة.
2. التفسيرُ عندَ المفسرين: الوسائدُ بين الحقيقةِ والمجاز
- الطبري (ت 310 هـ):
يرى أن النمارقَ هي “الوسائدُ التي يُتَّكأُ عليها”، وأن تصفيفها يدلُّ على كمالِ النعيمِ الذي لا تشوبه شائبة. - ابن كثير (ت 774 هـ):
يُضيفُ أن هذه النمارقَ ليست كوسائدِ الدنيا، بل هي “مُرتبةٌ كما يرتبها الملوكُ في قصورهم”، وكأن الجنةَ تُناظرُ أبهى ما عرفه البشرُ من ترف.
3. الزرابي المبثوثة: تناغمٌ بين النظامِ والحرية
إذا كانت النمارقُ “مصفوفةً” كالجندِ في استعراض، فإن الزرابي (البُسطَ الفاخرة) “مبثوثةً” كالزهورِ في حديقة. فهذا التضادُّ بين “التنظيم” و”الانتشار” يُجسِّدُ توازنَ الجنة: نظامٌ لا يقتلُ الروح، وحريةٌ لا تُفسدُ الجمال.
الفصل الثالث: النمارقُ المصفوفة.. ماذا تقولُ لنا اليوم؟
1. درسٌ في الجمالِ الوظيفي
ليست النمارقُ مجردَ وسائد، بل هي رمزٌ لفلسفةِ الإسلامِ في الجمال: كلُّ شيءٍ في الكونِ مُرتَّبٌ بحكمة، حتى الوسادةُ التي نضعُ عليها أقدامنا! فالله لم يخلقِ الجنةَ للراحةِ فحسب، بل لِتُبهِرَ الحواسَ أيضًا.
2. الزرابي والنمارق: ثنائيةٌ تُعبِّرُ عن النفس البشرية
النفسُ الإنسانيةُ تَشْتاقُ إلى النظامِ لِتُحقِّقَ الأمان، وإلى الفوضى (المنضبطة) لِتُعبِّرَ عن حريتها. وهذه الثنائيةُ موجودةٌ حتى في أدقِّ تفاصيلِ الجنة!
3. أمثلةٌ من الواقع: عندما تُصبحُ اللغةُ حياةً
- في قصورِ الأندلس، كانت النمارقُ المصفوفةُ جزءًا من طقوسِ الاستقبالِ الملكي.
- في الفنِّ الإسلامي، نجدُ زخارفَ السجادِ (“الزرابي”) تُقلِّدُ فكرةَ “المبثوثة”، بينما تُصمَّمُ الأثاثُ على طريقةِ “المصفوفة”.
الفصل الرابع: أسئلةُ القراء.. إجاباتٌ من الأعماق
1. ما الفرق بين “نمارق مصفوفة” و”زرابي مبثوثة”؟
النمارقُ للاتكاءِ والجلوس، فهي تحتاجُ إلى ترتيبٍ يضمنُ الراحة. أما الزرابي فتُبْثُّ على الأرضِ لِتُغطيَها، كأنها سجادةُ طبيعيةٍ لا تحتاجُ إلى تنظيم.
2. هل ذُكرت “نمارق” في القرآنِ غيرَ سورةِ الغاشية؟
لا، فهي كلمةٌ فريدةٌ اختصت بها هذه السورة، كَلمسةٍ أدبيةٍ نادرة.
3. هل لهذه العبارةِ دلالةٌ علمية؟
نعم! فالنظامُ (“المصفوفة”) والانتشارُ (“المبثوثة”) هما قانونانِ تحكمُانِ الكونَ، مِن تركيبِ الذرةِ إلى مجراتِ الفضاء.
الفصل الخامس: النمارقُ خارجَ القرآن.. بصمةٌ في الأدبِ والخطابة
1. في الشعرِ الجاهلي: رمزُ السلطةِ والجاه
لم تكن النمارقُ تُذكرُ إلا في وصفِ مجالسِ الملوكِ والأغنياء. فالشاعرُ ابن سودون يقول في وصف معشوقته:
أيا عرجون موز كالنَّمارق
إلى لُقياك وجدي قد نما رِق
2. في الخطابةِ الإسلامية: استحضارُ نعيمِ الآخرة
كان الخطباءُ يستخدمونَ هذه العبارةَ لِتحفيزِ المؤمنينَ على الصبر، كقولِ الإمامِ عليٍّ: «إنَّ في الجنةِ نمارقَ مصفوفةً تنتظرُ مَن لا يبيعُ آخرتَه بدنيا غَرور».
الخاتمة: كلمةٌ تفتحُ أبوابًا
“نمارق مصفوفة”.. أربعُ كلماتٍ تُلخِّصُ فلسفةَ الإسلامِ في الجمالِ والنظامِ والروح. فليست الجنةُ مكانًا للراحةِ فحسب، بل هي مدرسةٌ تُعلِّمُنا أن الإتقانَ في الصغيرةِ والكبيرةِ هو سرُّ جمالِ هذا الكون.
مراجعُ المقال
- تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن).
- تفسير ابن كثير (تفسير القرآن العظيم).
- لسان العرب لابن منظور.
- المعجم الوسيط (مجمع اللغة العربية).