تختانون أنفسكم: معنى العبارة بين اللسان والتأويل والأخلاق

حين تُقْدِمُ النَّفْسُ على خِيَانَةِ ذاتِها، تُحَوِّلُ الحياةَ إلى غابةٍ مِنَ الأقنعة، تتبادلُ فيها الأدوارَ ببراعة، حتى تَضيعَ الحقيقةُ في متاهةِ الوهم. فكيف لنا أن نَفهمَ هذا التناقضَ الإنسانيَّ العجيب؟ وكيف يصوغُ القرآنُ الكريمُ هذه الظاهرةَ في كلمةٍ واحدةٍ تَحمِلُ في طياتِها دلالاتٍ تُلامسُ أعماقَ الوجود؟
ها هنا تطلُّ علينا الآيةُ الكريمةُ: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ} (البقرة: 187)، لتُجسِّدَ صراعَ الإنسانِ مع ذاته، وتكشفَ عن سِرٍّ مِن أسرارِ التربيةِ الربانية: أنَّ الخيانةَ الحقيقيةَ ليستْ خيانةً للغير، بل هي جريمةٌ تُرتكبُ في محرابِ الذاتِ أولًا.
الفصل الأول: في أصل الكلمة ولُغَتِها
جذرُ الكلمةِ واشتقاقُها:
لو شُقَّتْ كلمةُ “تَخْتَانُونَ” عن صَدْرِها، لانكشفَ لنا جذرُها “خ و ن”، الذي يحملُ في ثناياه معنى الإخفاءِ والاستتار، كالخائِنِ الذي يُخفي سِرًّا، أو كالخَوَنِ (الضَّعْف) الذي يُضعفُ العزمَ. ولعلَّ صيغةَ “افتعال” في “تَخْتَانُونَ” تُضفي على الفعلِ طابعَ التكلُّفِ والمبالغةِ، كأنَّ الإنسانَ يُجاهدُ ليُخفي خيانتَه، فيَخونُ نفسَه مرتين: مرةً بالخطيئة، ومرةً بالتكتمِ عليها.
لماذا “تَخْتَانُونَ” لا “تَخُونُونَ”؟
لنقفْ أمامَ هذين اللفظين وقفةَ المُتأمِّل:
الصيغة | الدلالة |
---|---|
تَخُونُونَ | فعلٌ مباشرٌ يُعبِّر عن الخيانةِ كحدثٍ عابرٍ (كخيانةِ السرِّ مثلاً). |
تَخْتَانُونَ | صيغةُ افتعالٍ تُشير إلى تكلُّفِ الخيانةِ واستمرارها، كمن يُمارسُها في خفاءٍ. |
وهذا الفرقُ الدقيقُ يُفسِّرُ لماذا اختارَ القرآنُ “تَخْتَانُونَ” في سياقِ الحديثِ عن خيانةِ الصائمين لأنفسهم؛ إذْ كانتْ خيانةً مُستمرةً ومُتكررةً، لا مجردَ زلَّةٍ عابرةٍ.
الفصل الثاني: السِّياقُ القرآنيُّ وتأريخُ النُّزول
الحدثُ الذي أَنْزَلَ الكلمةَ:
في السنةِ الثانيةِ للهجرةِ، نَزَلَ تشريعُ الصيامِ، وفيهِ نَهيٌ عن الجماعِ ليلاً أثناءَ الاعتكافِ في المساجدِ. لكنَّ بعضَ الصحابةِ – كما روى أبو هريرةَ – خالفوا هذا النهيَ، فجامعوا زوجاتِهم ليلاً، ثم ندموا وأقرُّوا بذنبِهم. هنا نزلتِ الآيةُ كاشفةً عن سِرِّهم: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ}، لِتُرسي قاعدةً تربويةً عظيمةً: أنَّ الاعترافَ بالخطأِ هو الخطوةُ الأولى نحوَ المغفرةِ.
لماذا خُصَّتِ النفسُ بالخيانةِ هنا؟
القرآنُ يُريدُ أن يقولَ: إنَّ مَن يَخونُ التزاماتِه الدينيةَ، إنما يَخونُ – في الحقيقةِ – ذاتَه التي فُطِرَتْ على حبِّ الخيرِ. فالنفسُ الإنسانيةُ ليستْ عدوًّا يُخان، بل هي وديعةٌ إلهيةٌ يجبُ صونُها.
الفصل الثالث: عيونُ التَّفاسيرِ
الطبريُّ: الخيانةُ كَسِتْرٍ للذنبِ
يرى الإمامُ الطبريُّ أنَّ “تَخْتَانُونَ” تعني: “تستسرُّون بالذنبِ كتمانًا له”، فكأنَّهم بفعلِهم هذا خانوا أنفسَهم بحرمانِها من التطهُّرِ بالاعترافِ.
ابن كثيرٍ: العفوُ بعدَ الندمِ
يؤكدُ ابنُ كثيرٍ أنَّ الآيةَ تُبرزُ سعةَ رحمةِ اللهِ؛ فلم يُعاقبْهم على زلَّتِهم، بل قَبِلَ توبتَهم، لأنَّ الخيانةَ – وإن عظُمتْ – تذوبُ أمامَ صدقِ التوبةِ.
تفسيرُ الميزانِ: الخيانةُ المزدوجةُ
العلامةُ الطباطبائيُّ يرى في “تختانون أنفسكم” معنيين:
- خيانةٌ ماديةٌ: كتمُ أمرِ الفطرِ بالجماعِ.
- خيانةٌ معنويةٌ: إخفاءُ النيةِ الفاسدةِ في القلبِ.
وهذا التفسيرُ يُجسِّدُ عُمقَ المفهومِ القرآنيِّ الذي يربطُ بين السُّلوكِ الظاهرِ والنيَّةِ الباطنةِ.
الفصل الرابع: الإعرابُ.. لغةُ القرآنِ تُناطحُ السحابَ
لننظرْ إلى الآيةِ بعينِ النحويِّ:
- تَخْتَانُونَ: فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ بثبوتِ النونِ (لأنه مِنَ الأفعالِ الخمسةِ)، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متصلٌ في محلِّ رفعٍ فاعلٌ.
- أَنفُسَكُمْ: مفعولٌ بهِ منصوبٌ، و”كُمْ” ضميرُ المخاطبينَ مضافٌ إليهِ.
وهذا الإعرابُ يُظهرُ دقةَ القرآنِ في اختيارِ الصيغِ التي تُعبِّرُ عن دلالاتِ الفعلِ.
الفصل الخامس: الدَّلالاتُ.. لماذا نخونُ ذواتِنا؟
الخيانةُ كمرضٍ حضاريٍّ:
في عصرِ السرعةِ، صرنا نُبررُ خيانتَنا لأنفسِنا بأسماءٍ برَّاقةٍ: “الذكاءُ الاجتماعيُّ”، “المرونةُ”، “الواقعيةُ”، لكنَّ الحقيقةَ هي أننا نَخونُ قيمَنا لِنَلِيقَ بالآخرين. أَلَسنا نرى الموظفَ الذي يسرقُ وقتَ العملِ، ثم يُسمِّي ذلك “ذكاءً”؟ أو الطالبَ الذي يغشُّ في الامتحانِ، ويُعلِّلُ فعلتَه بأنها “ضرورةٌ”؟
التداوي بالاعترافِ:
القرآنُ يُقدِّمُ لنا وصفةً ربانيةً في الآيةِ: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ}. فالتوبةُ هنا ليستْ مجردَ ندبٍ، بل هي شرطٌ للخلاصِ مِن دوامةِ الخيانةِ. وكما يقولُ الفيلسوفُ سقراط: “الحياةُ غيرُ المفحوصةِ لا تستحقُ العيشَ”، فإنَّ النفسَ غيرَ المُعترفةِ بضعفِها لا تستحقُ النجاةَ.
الفصل السادس: أسئلةٌ تَثِبُ إلى الذِّهنِ
1. ما الفرقُ بين “تَخْتَانُونَ” و”تَخُونُونَ”؟
الجوابُ: الأولى خيانةٌ مُتكررةٌ ومُتكلَّفةٌ (كإخفاءِ الذنبِ)، والثانيةُ خيانةٌ عامةٌ (كخيانةِ الأمانةِ).
2. ما سَبَبُ نُزولِ “تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ”؟
الجوابُ: نزلتْ في صحابةٍ جامعوا زوجاتِهم ليلاً في رمضانَ خلافًا للنهيِ، ثم ندموا.
3. كيفَ فسَّرَ الميزانُ “تَخْتَانُونَ”؟
الجوابُ: بالخيانةِ المزدوجةِ: إخفاءُ الفطرِ (ماديًا)، وإخفاءُ النيةِ (معنويًا).
الخاتمة:
“تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ” ليستْ كلمةً عابرةً، بل هي مرآةٌ تُريكَ وجهَكَ الحقيقيَّ. فمَنِ استطاعَ أن يقرأَها بقلبٍ واعٍ، عرفَ أنَّ اللهَ – بفضلهِ – جعلَ الاعترافَ بالذنبِ بابًا للرحمةِ، لا سوطًا للعقابِ. فلنكنْ صادقينَ مع أنفسِنا، فلعلَّ في هذا الصدقِ خلاصًا مِن أغلالِ الخيانةِ.
ملحقٌ :
- جدولٌ مُقارنٌ بين تفاسيرِ “تَخْتَانُونَ”:
المفسر | التفسير | الدلالةُ الأخلاقيةُ |
---|---|---|
الطبري | إخفاءُ الذنبِ | ضرورةُ الصدقِ مع الذاتِ |
ابن كثير | العفوُ بعدَ التوبةِ | سعةُ رحمةِ اللهِ |
تفسير الميزان | خيانةٌ ماديةٌ ومعنويةٌ | الترابطُ بين الظاهرِ والباطنِ |
التوثيق:
- تفسير الطبري، دار المعارف.
- تفسير ابن كثير، دار طيبة.
- الميزان في تفسير القرآن، السيد الطباطبائي.
- لسان العرب، ابن منظور.