مفهوم التعايش بين الأديان: جذوره، أنواعه، وشواهده في التاريخ

في عالمٍ تتصادم فيه الثقافات وتتنازعه الأيديولوجيات، يبرز “التعايش بين الأديان” كجسرٍ منيرٍ يربط بين شتات البشرية. هل يُعقل أن تتعايش الأديان تحت سقفٍ واحد؟ وكيف يمكن للاختلاف أن يكون مصدرَ قوةٍ لا ضعف؟ أسئلةٌ تدفعنا إلى التأمل في تاريخ الإنسانية الطويل، حيث ازدهرت الحضارات حين احتضنت التنوع، وانحدرت حين افتقدت لغة الحوار. في هذا المقال، سنسبر أغوار هذا المفهوم بلسانٍ عربيٍ مبين، نستنطق آيات الكتب المقدسة، ونستعيد صفحات التاريخ التي تُثبت أن التعايش ليس حلماً، بل واقعاً عاشته أممٌ كثيرة.
الأصل اللغوي والاصطلاحي: ما هو التعايش؟
كلمة “التعايش” تحمل في طياتها عبقَ الحياة المشتركة، فهي مشتقةٌ من الفعل “عاش”، الذي يعني البقاء في ودٍ وسلام. وفي معجم “لسان العرب”، يُعرّف التعايش بأنه “العيش معاً على المودة والألفة”، كأنما هي دعوةٌ ضمنيةٌ لنسج علاقاتٍ إنسانيةٍ تتجاوز حدود العقيدة. أما في الاصطلاح الحديث، فقد عرّفته منظمة الأمم المتحدة بأنه: “القدرة على بناء مجتمعاتٍ تضم أفراداً من خلفيات دينية مختلفة، يعترف بعضهم ببعض، ويحترمون حقوقَ الإنسان الأساسية”. إنه باختصارٍ: فنُّ العيش معاً دون أن نفقد هوياتنا.
التعايش في عيون الأديان: حوارٌ سماويٌ وأرضي
1. الإسلام: رسالةُ تسامحٍ من السماء
جاء الإسلام ليُعلن أن الاختلاف سنّةٌ إلهية، فقال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [هود: 118]. وفي المدينة المنوّرة، حيث أسّس النبي ﷺ دولته الأولى، عقد مع اليهود “وثيقة المدينة”، التي نصّت على أن “لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم”، فكانت أول دستورٍ يُكرّس التعايش في التاريخ. ولم يكتفِ القرآن بالدعوة إلى السلام، بل أمر بالعدل حتى مع الخصوم: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾ [الممتحنة: 8].
2. المسيحية واليهودية: محبةٌ تسمو فوق الخلاف
في الإنجيل، نجد وصية المسيح عليه السلام: «أحبب قريبك كنفسك» (مرقس 12: 31)، وهي قاعدةٌ ذهبيةٌ للحوار. أما التلمود اليهودي، فيؤكد أن “من أنقذ نفساً واحدةً، فكأنما أنقذ العالم كلّه”، مُرسياً مبدأً أخلاقياً يتجاوز الحدود الدينية.
3. الأديان الشرقية: فلسفةُ اللاعنف
في الهند، حيث تتعانق الأديان كأغصان الشجر، علّم غاندي أن “الدين الحقيقي هو الذي يوحّد القلوب”، مستلهماً مبدأ “اللاعنف” من البوذية والهندوسية. وهكذا، تلتقي الأديان على مبدأ واحد: أن الإيمان لا يُشرعن الكراهية.
أنواع التعايش: جدولٌ يختصر قروناً من التجارب
النوع | السمات | مثال تاريخي |
---|---|---|
التعايش السلمي | اعترافٌ متبادلٌ بحقوق العبادة والممارسة | الأندلس (قرطبة القرن العاشر) |
التعايش الثقافي | تبادل العلوم والفنون بين الأديان | ترجمة كتب الفلسفة اليونانية إلى العربية بمساعدة علماء يهود |
التعايش السياسي | قوانين تضمن المساواة (كـ”نظام الملل” العثماني) | الدولة العثمانية (حماية الأرمن واليهود) |
شواهد تاريخية: حين كانت الأديان تُضيء لا تُحرق
1. الأندلس: جنّةُ التعايش المفقودة
بين عامي 711 و1492، تحوّلت الأندلس إلى لوحةٍ فسيفسائيةٍ نادرة. هنا، بنى المسلمون القصورَ إلى جانب الكنائس والكنيس، وشاركوا المسيحيين واليهود في ترجمة مؤلفات أرسطو وأفلاطون، فكانت قرطبة عاصمةً للعلم، حيث قال الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون: “الحكمةُ لا وطنَ لها”.
2. الإمبراطور أكبر: ديوانُ الأديان في الهند
في القرن السادس عشر، جمع الإمبراطور المغولي أكبر ممثلي الإسلام والهندوسية والمسيحية في “عبادة خانة” (دار العبادة)، ليُناقشوا معاً أسرار الوجود. وكانت النتيجة؟ دولةٌ ازدهرت فيها الفنون، ووُلدت لغة الأردو كجسرٍ بين الثقافات.
3. الدولة العثمانية: نظامُ “الملل”
لم تكن الأقلية المسيحية أو اليهودية في إسطنبول مجرد “ضيوف”، بل كانت “مللاً” (طوائف) تتمتع بحكم ذاتي في التعليم والقضاء، بموجب فرمانات السلاطين الذين رأوا في التنوع ثروةً لا عبئاً.
فوائد التعايش: لماذا نحتاج إليه اليوم؟
- درء الحروب: وفقاً لمركز “بيو” للأبحاث، 60% من النزاعات الحديثة تُستغل فيها الخلافات الدينية.
- ازدهار الاقتصاد: طريق الحرير القديم لم يكن تجارياً فحسب، بل كان جسراً لحوار الحضارات.
- إثراء الثقافة: العمارة الأندلسية، التي جمعت بين قناطر الرومان وزخارف العرب، خير دليل.
التحديات: لماذا ينهار التعايش أحياناً؟
- التطرف الديني: كالهجوم على مسجد نيوزيلندا (2019)، أو اضطهاد الروهينجا في ميانمار.
- سوء الفهم: كتفسير آية “الجهاد” خارج سياقها التاريخي.
- الاستعمار: كفرنسا التي زرعت الفتنة بين المسلمين والمسيحيين في الجزائر.
أجمل ما قيل عن التعايش: حِكمٌ خالدة
- البابا فرانسيس: “التعايش ليس خياراً نخاف منه، بل هو الطريق الوحيد لإنقاذ الإنسان من براثن الجهل”.
- القرآن الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ [الحجرات: 13].
- المهاتما غاندي: “لو التقى الإسلام والمسيحية في قلب إنسان واحد، لاستطاع أن يغيّر العالم”.
الخاتمة
التعايش بين الأديان ليس شعاراً نرفعه في المؤتمرات، بل هو اختبارٌ يوميٌ لإنسانيتنا. إنه يدعونا أن نرى في الآخر مرآةً تعكس وجه الله، بغض النظر عن الاسم الذي نطلقه عليه. فكما أن الألوان تزداد بهاءً حين تتعانق، تكتسب الأديان قداستها حين تتحاور. فهل نعي الدرس؟