المصطلحات

معنى الكمأ: أصل التسمية، خصائصه، ودلالاته بين العلم والتراث

هل خطر ببالك يوماً أن تُلقَّبَ ثمرةٌ تُختبئ تحت التراب بـ”الماس الأسود”؟ إنها الكمأة، ذلك الكائن الغامض الذي يختال بين رمال الصحراء وجذور الأشجار، حاملاً في طياته أسراراً علميةً وتراثيةً تثير الدهشة. ليست مجرد فطرٍ يُؤكل، بل هي قصة حضارةٍ تتناقلُها الألسن منذ العصر الجاهلي، وكنزٌ غذائيٌ يتبارى الشرق والغرب في اقتنائه. فما قصة هذه “الكمأة”، وما سرُّ قداستها في المطبخ والعلم والأدب؟


أصل كلمة “الكمأ”: لغزٌ تحت التراب

إذا ما استنطقنا اللغة، وجدنا ابن منظور في “لسان العرب” يهمس لنا بأن “الكمأ” مشتقٌ من الفعل “كمَأَ”، أي اختفى واستتر، وكأن الأرض تكتمه عن الأعين كسراً ثميناً. ولم تكن العرب قديماً تجهل قيمته، ففي الأمثال البدوية يُقال:

“الكمأةُ كِنزُ الصَّحراءِ، يَنفلِقُ عَنها التُّرابُ بَعدَ القَطْرِ كَما تَنفلِقُ الشَّمسُ مِن غَيمَةٍ سَوداءَ.”

أما في اللهجات العربية، فما زال أهل المغرب يسمونه “الترفاس”، بينما احتفظت الإنجليزية باسم “Truffle” المُشتق من اللاتينية “Tuber”، وكأن الأسماء تتعدد لكن الجوهر واحد: كنزٌ مدفونٌ تحت التراب.


التعريف العلمي: بين التصنيف والأسرار

إن تتبع العلم للكمأة أشبه برحلة استكشافية؛ فهذا الكائن ينتمي إلى مملكة الفطريات، ويحمل اسم “الفصيلة الكمئية” (Tuberaceae)، لكنه ينقسم إلى سلالتين عريقتين:

  • الكمأ العربي (Terfezia): درناتٌ بنيةٌ صغيرة (2-5 سم) تنتشر في صحاري الشرق الأوسط.
  • الكمأ الأوروبي (Tuber): ثمارٌ سوداءٌ ضخمة (3-7 سم) تُجمع من غابات فرنسا وإيطاليا.

وإذا ما أمسكتَ بواحدةٍ منها، فستلمس سطحاً مُجعَّداً يشبه لحاء الشجر، بينما ينبعث منها عبقٌ ترابيٌ فريد، كأنه عطر الأرض نفسها.


بيئة النمو: حكاية تكافلٍ بين الشجر والفطر

لا ينمو الكمأ اعتباطاً، بل هو نتاج تحالفٍ سريٍّ بين الفطر وجذور الأشجار. ففي صحاري السعودية، ترتبط درنات “الترفاز” بجذور الأكاسيا، بينما تحتضن أشجار البلوط في أوروبا كمأ “التوبر”. دراسةٌ منشورة في مجلة Nature (2021) تكشف أن هذه العلاقة التكافلية تزيد امتصاص الشجر للمعادن بنسبة 40%، بينما يحصل الفطر على السكريات.

أما جمعُه، فهو فنٌ بحد ذاته. في فرنسا، تُدرَّب الخنازير على شم رائحته من عمق 15 سم تحت الأرض، بينما يعتمد البدو على خبرة الأجيال في تتبع التشققات الترابية الدالة على وجوده. الجدول التالي يُلخِّص الاختلافات بين النوعين:

النوعاللونالحجمالمنطقةالسعر (لكغم)عمر النمو
Terfeziaبني فاتح2-5 سمالشرق الأوسط100-300$3-5 سنوات
Tuber Melanosporumأسود3-7 سمفرنسا، إيطاليا1000-3000$7-10 سنوات

القيمة الغذائية: صيدليةٌ تحت القدمين

ليست القيمة المادية وحدها ما يُميز الكمأ، فتحليلات مخبرية في جامعة القاهرة (2020) كشفت أن كل 100 غرام منه تحتوي:

  • 30% بروتين (أعلى من اللحوم الحمراء).
  • فيتامين B12 (نادر الوجود في المصادر النباتية).
  • مضادات أكسدة تكافح الشيخوخة (بحسب Journal of Ethnopharmacology).

بل إن الطب العربي القديم – كما يذكر ابن سينا في “القانون” – استخدمه لعلاج الرمد، بينما تُشير مخطوطة أندلسية إلى استخدام مسحوقه لتحسين الخصوبة.


في الثقافة: من أساطير البدو إلى موائد الملوك

حين كان البدو يترقبون هطول المطر في الصحاري القاحلة، كانوا يعلمون أن الأرض ستُكافئ صبرهم بكنوزها الخفية. فالكَمْأَة، كما يروي الأقدمون، تُشبه “هدية السماء” التي تظهر بعد العواصف الرعدية، حيث يُقال في الأمثال البدوية:

“إذا انهمر الرعدُ بأرضٍ جرداء، فانتظر الكَمْأَة تُطلُّ كالدرِّ الوضاء”.

هذا الاعتقاد الذي مزج بين العلم والأسطورة نجده مُوثَّقاً في كتاب “الحيوان” للجاحظ، حيث يصف الكمأة بأنها “نباتٌ يُنبتُه البرق”، مُشيراً إلى ارتباطها الوثيق بالرعد والمطر في المخيال العربي. أما في أوروبا، فلم تخلُ مأدبةٌ ملكيةٌ من “الرايسوتو بالكمأ الأسود”، حتى أن نابليون بونابرت – كما تذكر مذكرات طبيبه – كان يعتقد بأنه يزيد الخصوبة، فكان يتناوله قبل المعارك!


أسئلة تُجيب عنها الأرض

  • س: كيف تُميز الكمأة الأصلية من المزيفة؟
    ج: الأصلية تُصدر رائحةً ترابيةً قويةً عند فركها، وملمسها الداخلي يشبه الرخام.
  • س: هل يُمكن زراعتها؟
    ج: نعم، لكن العملية تحتاج 7 سنوات (حسب منظمة الفاو)، حيث تُلقَّح جذور الأشجار بجراثيم الكمأ.
  • س: لماذا غلاء سعرها؟
    ج: ندرتها وصعوبة جمعها (كل كلب مدربٍ يكلف 5000 يورو وفقاً لمجلة National Geographic).

الخاتمة: هل انكشف كل الغموض؟

بعد هذا الغوص في أعماق الأرض وأغوار التاريخ، يبقى السؤال: هل استطاع العلم الحديث فك كل ألغاز الكمأة؟ أم أنها – كبعض الكنوز – تُحبس بعض أسرارها تحت التراب، لتظل رمزاً للغموض الذي يُغري بالبحث؟!


المراجع

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى