المصطلحات

معنى الصرح: جذور الكلمة ودلالاتها من القرآن إلى العصر الحديث

هل خطر ببالك يومًا وأنت تتأمل قصرًا شاهقًا، أو جامعة عريقة، أو ناطحة سحاب تلامس الغيوم، أن تسأل نفسك: ما سرُّ تسمية هذه البُنى بـ “الصروح”؟ ولماذا ارتبطت الكلمة في أذهاننا بالعظمة والعلو، حتى صارت رمزًا للحضارة والتقدم؟
إن كلمة “الصرح” ليست مجرد حروف تُجسد معنىً ماديًا، بل هي كالسِّحر، تنطوي على تاريخٍ لغويٍّ عريق، وقصصٍ قرآنيةٍ تفيض بالعِبَر، وتحوُّلاتٍ ثقافيةٍ جعلتها جسرًا بين الماضي والمستقبل. دعنا نغوص في أعماق هذه الكلمة، لنكتشف كيف تحوَّل البناء الحجري إلى رمزٍ للإرادة الإنسانية.


الأصل اللغوي: عندما يكون الصرحُ “صريحًا”

إذا ما فتحنا معجم “لسان العرب” لابن منظور، نجد أن “الصَّرْح” هو القصر العالي أو البناء المشيد، وكأنما أرادت اللغة أن تقول: إن الصرح لا يُخفي نفسه، بل يعلن وجوده بكل صراحةٍ ووضوح. وهذا الجذر “ص ر ح” يحمل في طياته معاني الوضوح والارتفاع، فـ “الصريح” هو الخالص من الشوائب، و”الصرح” هو البناء الذي لا يُخفي عُلُوَّه.
أما جمعها، فهو “صُرُوح”، وكأنما كل صرحٍ يُنبئ بوجود آخر، فالصروح لا تُبنى فرادى، بل تتناسق كالنجوم في سماء الحضارة. وقد قال الشاعر ابراهيم ناجي:

“يا فؤادي لا تسل أين الهوى .. كان صرحاً من خيالٍ فهوى”


الصرح في القرآن الكريم: بين عرش سليمان وغرور فرعون

للكلمة وقعٌ خاصٌّ في القرآن الكريم، حيث تكررت في سياقين متناقضين:

1. صرح سليمان: عرش الحكمة

في سورة النمل (آية 44)، يُخبرنا القرآن كيف أراد النبي سليمان أن يدهش ملكة سبأ بلقيس بصرحٍ من قوارير:

“قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ”
هنا، الصرح ليس مجرد قصر، بل هو تحفة فنية تعكس حكمة سليمان؛ فالقوارير الشفافة تُجسِّد نقاءَ حكمته، والمَرَدُّ (التسوية) يُشير إلى إتقان الصنعة. لقد حوَّل سليمانُ الصرحَ إلى رسالةٍ سياسية: “انظري كيف أُوحِّد بين الجمال والقوة”.

2. صرح فرعون: جنون العظمة

أما في سورة غافر (آية 36)، فيأمر فرعون وزيره هامان:

“يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ، أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ”
هنا، الصرحُ رمزٌ للغرور؛ ففرعون يريد بناءَ برجٍ يصل به إلى السماوات، كأنما يستعيض بقوة الحجر عن ضعف الإيمان. والصورة تُذكِّرنا بـ “برج بابل” في الأساطير، حيث تُعاقب البشرية على تكبُّرها.

جدول (1): الصرح في القرآن

سياق الصرحالغايةالدلالة
سليمانإبهار بلقيس بالحكمةرمز القوة النقية
فرعونالوصول إلى السماواترمز الغرور الفاسد

تطور المفهوم: من قصور الأمويين إلى ناطحات السحاب

لم تكن الصروح حكرًا على القرآن أو الشعر ، بل هي شاهدٌ على تحولات الأمم:

في العصور الإسلامية

بنى الأمويون صروحًا كـ “قصر الحير الغربي” في بادية الشام، والذي كان مُجسَّمًا هندسيًّا يُعلن عن حضارةٍ ناشئة. وكانت هذه القصور تُزيَّن بالفسيفساء والآيات القرآنية، كأنما تريد أن تقول: “نحن أمةٌ تجمع بين السلطة والروح”.

في العصر الحديث

تحوَّل الصرح من رمزٍ سلطويٍّ إلى مفهومٍ ثقافي شامل:

  • الصرح العلمي: مثل جامعة الأزهر (أقدم جامعة في العالم، تأسست عام 970م)، والتي حوَّلت المعرفة إلى حجرٍ يُقاوم الاحتلال والجهل.
  • الصرح الحضاري: كمتاحف اللوفر في باريس، التي تجسّد حوارًا بين الماضي والمستقبل.
  • ناطحة السحاب: كبرج خليفة في دبي (أطول مبنى في العالم بارتفاع 828 مترًا)، الذي حوَّل الصحراء إلى لوحةٍ من الزجاج والفولاذ.

جدول (2): صروحٌ غيرت وجه التاريخ

الصرحالموقعالتاريخ/الارتفاعالدلالة
أهرامات الجيزةمصر139م (2560 ق.م)خلود الفراعنة
برج إيفلفرنسا324م (1889م)انتصار الصناعة
تمثال الحريةالولايات المتحدة93 م (1886 مترًا)رمز الحرية

أسئلة شائعة: ماذا يسأل الناس عن الصرح؟

  1. ما مرادف الصرح؟
  • قصر، حصن، هيكل، مع أنَّ “الصرح” يحمل نفحةً من الفخامة لا تُوجد في مرادفاته.
  1. ما معنى الصرح العلمي؟
  • هو مؤسسةٌ تُحوِّل المعرفة إلى إرثٍ ملموس، كجامعة القرويين في المغرب (أقدم جامعة في العالم حسب موسوعة غينيس).
  1. هل الصرح يقتصر على المباني؟
  • لا، فالكلمة تُستخدم مجازيًّا كقولهم: “فلانٌ صرحٌ من أخلاق”، أي أن فضائله عاليةٌ كالبناء الشامخ.

الصرح في الأدب: عندما يتحدث الحجر

لم يفته الأدباء، فالشاعر نزار قباني وصف المرأة بـ “صرحٍ من أسرار”، بينما قال جبران خليل جبران:

أَيُّ صَرْحٍ حَلَّ فِيهِ

ذَلِكَ الخَطْبُ المُلِمُّ

قَد هَوَى مِنْ حَيْثُ لا

تُقْتَحَمُ الأَبْصَارُ نَجْمُ


الخاتمة: هل نحنُ بُناةُ صروحٍ أم هُدامها؟

في كل مرةٍ نشاهد فيها صرحًا، علينا أن نتذكر أن الحجارة لا تصنع الحضارات، بل الإرادة الإنسانية. فصرح سليمان انتهى، لكن حكمته بقيت، وصرح فرعون تداعى، لكن عبرته لم تُغبِها الرمال.
لنختتم بقول الله تعالى:

“أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ” (التوبة: 109).
فالصرح الحقيقي هو الذي تُشيَّد أساساته على التقوى، لا على الغرور.


المراجع


ملاحظة أخيرة:
هذا المقال مُسجَّلٌ بحقوق النشر للموقع، ويُمنع نسخه دون إذن. شاركه مع من يرغب في معرفة كيف تُصاغ الحضارة بحروف اللغة!

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى