روسيا: تاريخ عريق وجغرافيا أسطورية في قلب العالم

أتراكَ تظنُّ أنَّ روسيا مجردَ خريطةٍ تُلامسُ القطبَ الشماليَّ وتلتحفُ بثلوجِ سيبيريا؟ بل هي عالمٌ يختزلُ في طياتِه أسرارَ الإمبراطورياتِ الغابرة، وهمساتِ الأدباءِ العظام، وصخبَ الثوراتِ التي غيّرت وجهَ التاريخ! هنا، حيثُ تتنفسُ الأرضُ تناقضاتٍ لا تُحصى: شرقٌ يغازلُ غربًا، وقسوةُ المناخِ تُذوّبُها دفءُ الثقافةِ الإنسانية. فتعالَ نغوصُ معًا في أعماقِ هذا العملاقِ الذي يُشبهُ كونًا موازيًا!
1. أصلُ الاسم: من قبائلَ “الروس” إلى أمّةٍ تَهُبُّ رياحُها على العالم
كيف وُلدَ اسمُ “روسيا”؟ إنَّها حكايةٌ تبدأُ من قلبِ العصورِ الوسطى، حينَ كانت قبائلُ “الروس” تنسجُ خيوطَ هويتها على ضفافِ نهرِ الدنيبر. كلمةٌ تموجُ بالأصولِ السلافيةِ، ترفلُ برداءِ البيزنطيينَ فتصبحُ “روسيا” في سجلاتِهم، ثمَّ تتحولُ إلى لقبٍ رسميٍّ في عصرِ إيفانَ الرهيبِ، الذي رأى في نفسِه قيصرًا – سليلَ قياصرةِ روما! اسمٌ يحملُ في أحرفِه جبروتَ الإمبراطوريةِ، وحنينَ الأمِّ التي تحتضنُ مئةَ قوميةٍ تحتَ جناحيها. فهل تعلمُ أنَّ الروسَ أنفسَهم يُسمّونها “رودينا مات” – الأمُّ التي لا تُخون؟!
2. التاريخ: سِفرٌ من دمٍ وذهبٍ وأحلامٍ مجنونة
من سفنِ الفايكنج إلى صقيعِ الثورةِ البلشفية
لن تستطيعَ قراءةَ تاريخِ روسيا دونَ أن تسمعَ صليلَ سيوفِ الفايكنج (الفارانجيين)، الذين أسسوا “كييفان روس” في القرنِ التاسع، فكانت نواةَ الدولةِ التي ستُطلِقُ صرختَها نحوَ العالم. لكنَّ الرياحَ تأتي بما لا تشتهي السفنُ! ففي القرنِ الثالثَ عشرَ، اجتاحَ المغولُ الأرضَ كعاصفةٍ ناريةٍ، تاركينَ وراءَهم شعبًا يبحثُ عن هويتِه بينَ الركامِ.
القياصرة: حينَ يمتزجُ الجنونُ بالعبقرية
أما عصرُ القياصرةِ، فهو ملحمةٌ من المجدِ والدمِ. إيفان الرهيبُ، الذي حوَّلَ موسكو إلى “روما الثالثة”، لكنَّ جنونَ السلطةِ جعلَه يقتلُ ابنَه بيديه! ثم يأتي بطرسُ الأكبرُ، العملاقُ الذي أمسكَ بشاربِ روسيا البدائيةِ وجرَّها إلى الحداثةِ غصبًا، فبنى سانت بطرسبرغَ على عظامِ الفلاحينَ، لتنفتحَ نافذةٌ على أوروبا.
الثورةُ الحمراءُ: عندما انقلبَ الفقراءُ على قصورِ القياصرةِ
وفي ليلةٍ من ليالي 1917 الباردةِ، انفجرَ بركانُ الثورةِ البلشفيةِ، فسقطَتْ تيجانُ القياصرةِ، وارتفعَ علمُ المطرقةِ والمنجلِ. لكنَّ الحلمَ الشيوعيَّ تحوَّلَ إلى كابوسٍ تحتَ حكمِ ستالينَ، حيثُ أصبحَ الجوعُ رفيقًا، والسجونُ السياسيةُ (الغولاغ) مصيرًا لملايينَ.
روسيا الحديثة: بينَ أحلامِ الديمقراطيةِ وقبضةِ الدبِّ
أما اليومَ، فروسيا تُشبهُ لاعبَ شطرنجٍ بارعًا بقيادةِ فلاديمير بوتين، الذي يعيدُ رسمَ حدودِ النفوذِ بالحديدِ والنارِ، من سوريا إلى أوكرانيا. ترى، هل تُعيدُ روسيا إحياءَ أمجادِ الإمبراطوريةِ، أم أنها تُصارعُ شياطينَ الماضي؟
3. الجغرافيا: أرضٌ تسعُ الكرةَ الأرضيةَ مرتينِ ونصفًا!
هل روسيا أوروبيةٌ أم آسيويةٌ؟ الجوابُ: هي كالوردةِ ذاتِ الوجهين!
اسألْ خريطةَ العالمِ: أينَ تقعُ روسيا؟ ستجيبُكَ بلسانِ الأرقامِ: 25% من أراضيها في أوروبا، و75% في آسيا! لكنَّ الروحَ الروسيةَ ترفضُ الانقسامَ، فجبالُ الأورالِ – التي يُفترضُ أنها الحدُّ الفاصلُ – ليستْ سوى تلّاتٍ متواضعةٍ أمامَ عظمةِ الهويةِ الروسيةِ.
سيبيريا: الجنةُ الجليديةُ التي لا ترحمُ
هنا، حيثُ تنخفضُ الحرارةُ إلى 70 تحتَ الصفرِ، في قريةِ أويمياكون، يصبحُ الزمنُ كتلةً متجمدةً، والناسُ يعيشونَ على ذكرياتِ الصيفِ الذي لا يدومُ سوى شهرين! لكنَّ تحتَ هذا الجليدِ كنوزٌ لا تُقدَّرُ: غاباتٌ تعانقُ السماءَ، وأنهارٌ تُغنّي للحريةِ، وبحيرةُ بايكالَ – أعمقُ بحيرةٍ في العالمِ – التي تحوي 20% من مياهِ الأرضِ العذبةِ.
4. السكان: فسيفساءٌ من الأعراقِ والأديانِ
الروس: أبناءُ الأمِّ التي لا تنامُ
عددُهم 144 مليونًا، 80% منهم روسٌ، لكنَّ 20% الباقيةَ تشملُ 190 قوميةً! فالتتارُ المسلمونَ يبنونَ مساجدَهم في قازان، والشيشانُ يقاتلونَ من أجلِ هويتِهم، والياقوتُ في سيبيريا يحافظونَ على تقاليدِ شامانِهم.
الدين: قداس في الكنيسةٍ، و صلاة في المسجدٍ
الأرثوذكسيةُ هي الديانةُ السائدةُ (70%)، لكنَّ الإسلامَ يرفعُ مآذنَه في سماءِ تتارستانَ (15% من السكانِ)، والبوذيةُ تتنفسُ في كالميكيا، واليهوديةُ تحتفظُ بجذورِها في موسكو.
5. الاقتصاد: كنوزُ الأرضِ ولعنةُ النفطِ
الغازُ والنفطُ: سلاحٌ ذو حدينِ
روسيا ليستْ مجردَ دولةٍ، بل هي “مملكةُ الطاقةِ”! فهي الأولى في إنتاجِ الغازِ، والثانيةُ في تصديرِ النفطِ، لكنَّ هذه النعمةَ تحوَّلتْ إلى نقمةٍ حينَ أصبحَ الاقتصادُ رهينةً لتقلباتِ الأسعارِ.
الروبلُ: عملةٌ تترنحُ تحتَ وطأةِ العقوباتِ
الروبلُ الروسيُّ يشبهُ بحّارًا في محنةٍ: يرتفعُ معَ رياحِ النفطِ، ويهوي معَ عواصفِ العقوباتِ الدوليةِ. أما الصناعةُ، فمن صواريخِ “سارمات” التي تُرعبُ العالمَ، إلى حقولِ القمحِ التي تُطعِمُ الشعوبَ، روسيا تعرفُ كيفَ تزرعُ القوةَ في الترابِ.
6. الثقافةُ: عندما يُصبحُ الأدبُ دينًا
دوستويفسكي وتولستوي: عمالقةٌ يسكنونَ ضميرَ الإنسانيةِ
ماذا يقولُ الأدبُ العالميُّ لو حُذفتْ منه روسيا؟ سيفقدُ “الجريمةَ والعقابَ”، و”الحربَ والسلامَ“، وكلَّ تلكَ الأعمالَ التي تُجسِّدُ صراعَ الإنسانِ معَ الروحِ والوجودِ.
الباليهُ: رقصةُ الثلجِ والنارِ
في مسرحِ البولشوي، تتحولُ الموسيقى إلى شعرٍ، والحركةُ إلى لوحةٍ ساحرةٍ. حتى الثلجُ الروسيُّ يرقصُ على أنغامِ تشايكوفسكي!
7. الحياةُ في روسيا: بينَ أنيابِ البردِ ودفءِ “البليني”
اسألْ أيَّ طالبٍ عربيٍّ درسَ هناك: “كيفَ هي الحياةُ؟” سيجيبُكَ: “في موسكو، تشربُ القهوةَ في مقهى يطلُّ على الكرملينَ، وفي القرى، قد تموتُ من البردِ لو نسيتَ إشعالَ المدفأةِ!”. لكنَّ الروسَ يعيشونَ بتناقضٍ مدهشٍ: قسوةُ الخارجِ تُذوّبُها روحُ الدعابةِ، والفظاظةُ الظاهرةُ تخفي كرمًا لا حدودَ له.
8. روسيا اليومَ: دبٌّ يبحثُ عن عرينِه في عالمٍ مضطربٍ
هل روسيا أوروبيةٌ؟ نعم. هل هي آسيويةٌ؟ نعم. لكنَّها فوقَ هذا وذاك، كيانٌ يرفضُ التصنيفَ. عضوٌ دائمٌ في مجلسِ الأمنِ، تلاعبتْ بأوراقِ الشرقِ الأوسطِ، وحوَّلتْ سوتشي إلى وجهةٍ للسيّاحِ العربِ الباحثينَ عن شمسٍ في أحضانِ الثلجِ.
الخاتمة: روسيا.. لغزٌ لا ينتهي
أتراكَ تظنُّ أنَّكَ عرفتَ روسيا؟ إنَّها كالبحرِ: كلما اغترفتَ من مائِه، ازددتَ عطشًا! ففي كلِّ زاويةٍ منها حكايةٌ تنتظرُ من يرويها، وفي كلِّ ذرة ثلج سرٌّ يدعوكَ لاكتشافِه. فلنقلْ مع الشاعرِ:
“يا روسيا.. كم فيكِ من جمالٍ يُخفي ألمًا، وكم في ألمِكِ من جمالٍ!”.