المصطلحات

معنى العقيدة: نبض الجذور وأجنحة الدلالات بين السماء والأرض

هل سألتَ نفسك يومًا: ما الذي يربط قلب الإنسان بسماءٍ لا يراها؟ وكيف تُحكِمُ العقيدةُ عُقدةَ الروح بالغيب، فتتحول من فكرةٍ مجردةٍ إلى نهرٍ يُغذي القلوبَ والأمم؟
العقيدة ليست كلمةً تُلقى على الورق، بل هي نبضٌ خفيٌّ يُحرِّكُ التاريخَ والضمير. في هذا المقال، سنسيرُ معًا في رحلةٍ نكشفُ فيها عن معنى العقيدة، من جذورها اللغوية التي تشبثت بأرض العرب، إلى أجنحتها التي حملتها عبر الحضارات، حتى استقرت في قلوبنا كطائرٍ مقدسٍ يُغنّي للحق والخُلق.


الفصل الأول: الجذر اللغوي – حين صار العُقدُ إيمانًا

في البدءِ كانت الكلمةُ، وفي قلب الكلمةِ كان الجذرُ. انحدرت لفظةُ “العقيدة” من مادة (عَقَدَ)، تلك المادة التي تُخبئ في أحشائها قوةَ الربطِ وإحكامَ الوثاق.
يقول ابن منظور في لسان العرب: “العقد نقيض الحل، وهو شَدُّ الشيءِ حتى يُوثَقَ”. فالحبلُ يُعقَدُ لئلا ينفصم، والعهدُ يُعقَدُ لئلا يُنكث، والقلبُ يُعقَدُ على الإيمان لئلا يضيع في متاهات الشك.
لكن العربَ القديمةَ لم تكتفِ بالمعنى المادي؛ فحين قالوا “عَقَدَ الرجلُ عقيدتَه”، كانوا ينسجون خيطًا من نورٍ بين الأرضِ والسماء، خيطًا يُمسكُ بالروحِ كي لا تتبعثر في رياح الجاهلية.


الفصل الثاني: التعريف الاصطلاحي – مرايا المفهوم المتعددة

العقيدةُ كالماء: تتشكلُ حسب الإناء الذي تُصبُّ فيه. فهي في الإسلام جوهرُ الإيمان الجازم الذي وصفه ابن تيمية في “الواسطية” بقوله: “الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره”. إنها الشجرةُ التي جذورها في السماء، وأغصانها تُظللُ حياةَ المؤمن.
أما في الفلسفةِ الغربية، فالعقيدةُ تُسمى “Creed”، وهي تشبهُ مرآةً تعكسُ رؤيةَ الإنسانِ للكون. ففي حين ترتكز العقيدةُ الإسلاميةُ على الوحي، تُبنى العقائدُ الماديةُ على شُكوك العقلِ وحده.
وللعقيدةِ وجهٌ ثالثٌ في علم الاجتماع: فهي النسيجُ الخفيُّ الذي يحيكُ الهويةَ الجماعية. فـمفهوم العقيدة هنا يشملُ كلَّ ما يؤمن به المجتمع، سواءٌ أكان دينًا سماويًّا أم فكرةً أرضيةً كالعقيدة القومية، التي حوَّلتْ أوروبا إلى ساحة حربٍ في القرن العشرين.


الفصل الثالث: الرحلة التاريخية – من ألواح الفراعنة إلى عصر الذرة

في مصر القديمة، كانت العقيدةُ نهرًا مقدسًا يربطُ الفرعونَ بالآلهة. أما في أورشليم، تحولت إلى “عقيدة الشعب المختار” التي حملها اليهودُ كشعلةٍ في الليل الطويل.
ولكنَّ التحولَ الأعظم جاء مع الإسلام، حيث صارت العقيدةُ توحيدًا خالصًا: “قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ” (الإخلاص: 1). هنا، انكسرت الأصنامُ الداخليةُ قبل الخارجية، فلم يعد للإله إلا وجهٌ واحدٌ.
أما اليوم، وفي عصرٍ يقدِّسُ العلمَ والمادة، تواجه العقيدةُ الدينيةُ إعصارًا من الأسئلة: هل يمكن لـتعريف العقيدة أن يتسعَ ليشملَ شكوكَ العصر؟ وهل تُصبح “عقيدة الاستهلاك” – التي تَعِدُ بالسعادة عبر شراء الأشياء – ندًّا للإيمان بالغيب؟


الفصل الرابع: العقيدة في عصر الضباب – بين الشك واليقين

يُحكى أن طائرًا حاول مرةً أن يحملَ غصنه إلى عشِّه، لكن الريحَ العاتيةَ مزقتْهُ. فقرر أن يبني عشًّا داخلَ صخرةٍ متينةٍ. العقيدةُ في عصرنا هي ذلك العشُّ: صخرةٌ تبحثُ عنها الأرواحُ المُتعبةُ وسط عواصف العولمة.
تشير دراساتُ علم النفس الحديث إلى أن الإيمانَ بالعقيدةِ يُقلل من القلق الوجودي، كأنما القلبُ يحتاجُ إلى “خريطة معنوية” ليعبرَ ظلماتِ الحياة. لكن ماذا لو تحولت العقيدةُ إلى سجنٍ بدلًا من أن تكونَ منطلقًا؟ هنا يأتي دور العقل ليميزَ بين جوهر العقيدةِ الراسخ (كالتوحيد) وبين التفاصيلِ البشرية القابلةِ للنقاش، كما فعل ابن رشد حين جمع بين برهان الفلسفة ووحي القرآن.


الخاتمة: العقيدةُ بوصلةٌ… فإلى أيِّ اتجاهٍ تشير؟

في النهاية، العقيدةُ ليست مجردَ كلمةٍ نرددها، بل هي البوصلةُ التي تُحدد اتجاهَ رحلة الإنسان: إلى السماءِ أم إلى الأرض، إلى الذاتِ أم إلى الآخر.
وها نحن نعودُ إلى السؤال الأول: كيف نضمنُ أن تقودنا هذه البوصلةُ إلى برِّ الأمان؟ الجوابُ يكمنُ في أن نجعلَ من العقيدةِ جذورًا تُثبتنا، لا سلاسلَ تقيدنا. فكما أن الشجرةَ القويةَ تمد جذورها في الأعماق وتحررُ أوراقها للريح، فليكن إيمانُنا بالعقيدةِ رسوخًا في الحق، وتحليقًا في سماء التساؤل.


للمزيد من الغوص في عالم المعاني:


ملحق سريع: 5 حقائق مدهشة عن العقيدة

  1. كلمة “Creed” الإنجليزية تعود إلى الجذر اللاتيني “Credo”، أي “أنا أؤمن”.
  2. أقدم عقيدة مكتوبة في التاريخ هي “نصوص الأهرام” المصرية (2400 ق.م).
  3. ابن تيمية سمى كتابه “العقيدة الواسطية” لأن طلبه منه قاضي واسط!
  4. الفلسفة الوجودية حاولت استبدال العقيدة الدينية بـ”الإيمان بالذات”.
  5. 78% من الشباب العربي يرون أن العقيدة مصدر رئيسي للأمل (استنادًا لدراسة 2022).

بهذا، نكون قد أرسلنا لكَ – عزيزي القارئ – دعوةً لِتخوضَ رحلتك الخاصة مع معنى العقيدة، فكلما تعمقتَ في جذورها، ارتفعتَ بأجنحةِ دلالاتها إلى عالمٍ أوسعَ من اليقين.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى