المصطلحات

“صفقة القرن”: ما هي؟ وماذا تعني؟


تطرح “صفقة القرن” تساؤلات جذرية حول إمكانية إنهاء صراع دام أكثر من قرن بواسطة ورقة سياسية. ففي يناير 2020، أُطلقت هذه الخطة التي تصدرت عناوين الصحف العالمية بقيادة إدارة دونالد ترامب، على أن تُشكل حلاً للصراع الفلسطيني–الإسرائيلي. وما بدا آنذاك كفرصة تاريخية لتحقيق السلام تحول سريعًا إلى إشكالية معقدة، إذ انقسمت الآراء حولها؛ فبينما اعتبرها البعض خطوة نحو مستقبل أكثر استقرارًا، وصفها آخرون بأنها “صفقة استسلام” تُفقد الفلسطينيين حقوقهم الوطنية وتكرس واقع الاحتلال.

أولاً: السياق التاريخي… من أوسلو إلى صفقة القرن


لم تُخلق “صفقة القرن” من فراغ، بل جاءت نتيجة تاريخ طويل من محاولات إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. فمنذ عام 1967، شهدنا سلسلة من المبادرات التي حاولت معالجة الأزمة؛ بدءًا من اتفاقيات أوسلو عام 1993 التي وضعت حجر الأساس لفكرة دولة فلسطينية مؤجلة، مرورًا بمفاوضات كامب ديفيد عام 2000 التي انهارت بسبب الخلافات العميقة حول القدس، ووصولاً إلى خطوات سياسية جديدة حاولت إعادة تعريف مفهوم السلام. وفي ظل تحولات إقليمية كبيرة، مثل التطبيع العربي مع إسرائيل وتراجع الدعم الدولي للقضية الفلسطينية، برزت هذه الخطة بقيادة جاريد كوشنر وبالتعاون مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مستغلين الانقسام الفلسطيني بين فتح وحماس والدعم العربي الذي استُخدم أحيانًا لمواجهة النفوذ الإيراني.

ثانيًا: البنود الرئيسية… ما الذي عرضته الصفقة؟

الحدود والسيادة: دولة بلا أرض متصلة؟


تقترح الصفقة إقامة دولة فلسطينية على مساحة تُقدر بحوالي 70% من الضفة الغربية، إلا أن هذا التقسيم يطرح تحديات جغرافية وسياسية؛ إذ تُجزأ الأراضي إلى كانتونات منفصلة وغير متصلة، فيما تظل المناطق الاستراتيجية مثل الأغوار، التي تشكل حوالي 30% من الضفة، تحت السيطرة الإسرائيلية مع إحاطة أمنية محكمة تحد من استقلالية الدولة المقترحة. كما تطرأ تعديلات على الواقع الاستيطاني؛ إذ تُقترح خطوات لإيقاف التوسع الاستيطاني الجديد مقابل ضم كتل رئيسية مثل أريئيل وغوش عتصيون إلى السيادة الإسرائيلية، وهو ما أثار تساؤلات جادة حول شرعية هذه التعديلات على الحدود.

القدس: العاصمة الموحدة لإسرائيل؟


فيما يخص القدس، تكشف الخطة عن تناقضات واضحة؛ إذ تبقى القدس موحدة تحت السيادة الإسرائيلية، فيما يُقترح أن تكون للدولة الفلسطينية عاصمة تحمل اسم “القدس” في مكان آخر، لكن بعيدة عن المدينة التي سيُحكمها الإسرائيليون. كما أن الخطة لا تقتصر على القضية الفلسطينية فحسب، بل تتناول قضية اللاجئين اليهود، الذين فرّوا من الدول العربية قبل إقامة دولة إسرائيل في 1948، مما يفتح بابًا جديدًا للنقاش حول الذاكرة التاريخية والصراع المستمر بين الطرفين.

الوعود الاقتصادية: 50 مليار دولار لـ”شراء السلام”؟


أما على الصعيد الاقتصادي، فتتحدث الخطة عن توفير 50 مليار دولار للمشروعات والبنية التحتية في فلسطين، الأردن، مصر، ولبنان على مدى عشر سنوات. وتعد الخطة بخلق مليون فرصة عمل للفلسطينيين وخفض معدلات الفقر إلى النصف. ولكن من دون تمكين الدولة الفلسطينية من إقامة موانئ خاصة بها في غزة في المرحلة الأولى، تظل إسرائيل هي المتحكمة في عمليات الاستيراد والتصدير عبر موانئها، مما يضع قيودًا إضافية على السيادة الاقتصادية الفلسطينية. وبعد خمس سنوات، يُمكن للفلسطينيين بناء ميناء في غزة بشرط الوفاء بالمتطلبات الأمنية التي تضعها إسرائيل.

ثالثًا: ردود الفعل… صفقة أم مؤامرة؟


لاقى المشروع انتقادات حادة من الجانب الفلسطيني، حيث وصف الرئيس محمود عباس الخطة بأنها “صفقة القرن لا صفقة السلام”، معتبرًا أنها تُفقد الفلسطينيين حقوقهم الوطنية وتكرس واقع الاحتلال. ولم يمض وقت طويل حتى اندلعت احتجاجات واسعة في الضفة الغربية وقطاع غزة، رافعة شعار “الشعب الفلسطيني ليس للبيع”. وفي المقابل، رحب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالمبادرة، معلنًا أنها “فرصة ألف عام” لتحقيق مكاسب تاريخية، رغم تحفظ التيار اليساري في إسرائيل الذي انتقد غياب الحوار المباشر مع الفلسطينيين. أما في العالم العربي، فقد جاء رد الفعل متباينًا؛ إذ رفضت الشعوب الفكرة بحزم، بينما سارعت بعض الدول مثل الإمارات والبحرين إلى التطبيع مع إسرائيل من خلال اتفاقيات إبراهيم عام 2020، مما أضعف الموقف التفاوضي الفلسطيني وأعاد رسم معالم الصراع في المنطقة.
على المستوى الدولي، أثارت الصفقة انتقادات قانونية وسياسية من عدة جهات، إذ أشار عدد من تقارير الأمم المتحدة إلى أنها تتعارض مع مبادئ القانون الدولي، خاصةً قراري مجلس الأمن 242 واتفاقية جنيف الرابعة.

رابعًا: تحليل نقدي… لماذا فشلت الصفقة؟


يتجلى أحد أهم أسباب الفشل في إشكالية الشرعية الدولية التي تحيط ببنود الصفقة؛ إذ تخالف بعض الإجراءات مقترحات القانون الدولي، لا سيما فيما يتعلق بقراري مجلس الأمن 242 واتفاقية جنيف الرابعة التي تؤكدان ضرورة انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة وحظر نقل السكان المدنيين إليها. إلى جانب ذلك، تُفرض الخطة شروطًا أحادية الجانب على طرف يُعتبر ضعيفًا نسبيًا، مما يجعلها أشبه بعملية “استسلام مراقب” بدلاً من تفاوض متكافئ بين طرفي الصراع. كما أن محاولة تحويل القضية من نزاع سياسي إلى مسألة اقتصادية بحتة، عبر ربط السلام بالاستثمارات الضخمة، يمثل تحديًا آخر؛ إذ قال إدوارد سعيد ذات مرة: “لا يمكن للدولارات أن تُعوض شعبًا عن أرضه.” وفي هذا الإطار، يشير البعد الجيوسياسي إلى أن الصفقة قد تكون جزءًا من استراتيجية أوسع تهدف إلى مواجهة النفوذ الإيراني من خلال تعزيز موقع إسرائيل كحليف استراتيجي في المنطقة.

خامسًا: تداعيات الصفقة… ماذا بعد؟


تشير التطورات اللاحقة إلى أن الصفقة قد تركت أثرًا بعيد المدى على مستقبل العملية السياسية في الشرق الأوسط. ففي ظل إدارة بايدن التي أعلنت عدم تبنيها رسميًا للصفقة رغم عدم إلغائها، تستمر العلاقات المتغيرة بين بعض الدول العربية وإسرائيل، مما يزيد من عزلة الفلسطينيين على الساحة الدولية. كما أثارت المبادرة مخاوف بشأن مستقبل حل الدولتين، إذ باتت تُظهر تحول الرؤية من “دولة لليهود” إلى “دولة اليهود في كل فلسطين”، وهو ما يفتح الباب أمام نقاشات حول حل الدولة الواحدة بتكلفة باهظة على الهوية والحقوق الوطنية. وفي الوقت نفسه، تُعتبر مسألة التطبيع التي يتبناها بعض الدول العربية مخاطرة مستقبلية قد تقوض الموقف العربي التاريخي وتعيد صياغة ديناميكيات الصراع في المنطقة.

الخاتمة
قد لا تكون “صفقة القرن” الحل النهائي للصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، لكنها أكدت تحولات عميقة في المشهد السياسي الإقليمي والعالمي. فقد تحولت القضية الفلسطينية من نضال تحرري إلى ورقة مساومة في حسابات القوى الكبرى، بينما تحول النقاش من الحقوق السياسية إلى النموذج الاقتصادي. ورغم كل التحديات، يبقى الأمل معقودًا على قدرة الشعوب على استعادة حقوقها وإعادة رسم مستقبل قائم على العدالة والكرامة. وكما عبّر الشاعر الراحل محمود درويش بقوله: “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”، فإن مستقبلًا مشرقًا لا يزال ممكنًا لمن يسعون لتحقيق العدالة والتغيير الحقيقي.


المصادر

  1. وزارة الخارجية الأمريكية – تقارير ومقالات حول “صفقة القرن” (2020).
  2. الأمم المتحدة – تقارير حقوق الإنسان والقانون الدولي المتعلقة بالنزاع الفلسطيني–الإسرائيلي.
  3. معهد بروكينغز – تحليلات وتقييمات حول القضية الفلسطينية والتحولات الإقليمية (2020).
  4. إدوارد سعيد – مؤلفات وآراء حول القضية الفلسطينية.
  5. تصريحات رسمية للرئيس محمود عباس ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو خلال فترة إطلاق المبادرة (2020).
  6. اتفاقيات إبراهيم 2020 – نصوص وتحليلات تتعلق بعملية التطبيع في الشرق الأوسط.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى