المصطلحات

معنى قميص عثمان: كيف يتحوّل الرمز إلى أداة في الصراعات السياسية؟

في السياسة، كما في التاريخ، ليس كل شيء كما يبدو. هناك دائمًا قصة تُروى للعامة، وأخرى تدور خلف الكواليس. من بين العبارات التي تجسد هذا المعنى تمامًا، تأتي مقولة “قميص عثمان”، التي تُستخدم لوصف استغلال قضية عادلة لتحقيق مكاسب شخصية أو سياسية. لكن كيف بدأت الحكاية؟ ولماذا لا يزال هذا المصطلح حيًّا حتى اليوم؟ 


 القصة الأصلية: القميص الذي أشعل الفتنة 

لنعد إلى العام 656 م، حيث كانت المدينة المنورة تغلي على وقع التوترات السياسية. الخليفة عثمان بن عفان، الرجل الطيب الكريم الذي فتح مصحفًا ليقرأ حين حاصره الثوار في داره، لم يكن يدرك أن هذه اللحظة ستكون الأخيرة في حياته. سقط مضرجًا بدمائه، بينما اختلطت صفحات المصحف بآثار الطعنات. 

لكن الأمر لم يتوقف عند ذلك. في دمشق، حيث كان معاوية بن أبي سفيان واليًا على الشام، كان الحدث فرصة لا تُفوَّت. رفع قميص عثمان الملطخ بالدماء في المسجد الأموي، وعرض أصابع زوجته نائلة التي قُطعت أثناء محاولتها الدفاع عنه. لم يكن هذا مجرد تعبير عن الحزن أو الغضب، بل كان خطوة محسوبة في لعبة السلطة. كان معاوية يطالب بالقصاص، لكنه في الحقيقة كان يضع حجر الأساس لصراع سيغير وجه التاريخ الإسلامي. 


 من مظلومية إلى معركة: عندما يصبح الدم ورقة ضغط 

هنا كان المأزق. الخليفة الجديد، علي بن أبي طالب، لم يكن متورطًا في مقتل عثمان، لكنه ورث أزمة لم يكن من السهل حلها. قتلة عثمان كانوا بين أنصاره، ومعاقبتهم فورًا كان يعني إشعال فتنة داخل معسكره. في المقابل، كان معاوية يُصرّ على الثأر، لكنه لم يكن يوجّه الاتهام للقتلة المباشرين فقط، بل كان يستخدم القميص كذريعة للطعن في شرعية علي نفسه

وهكذا، انجرفت الأمة إلى معركة صفين (657 م)، حيث رفع الطرفان شعارات كبيرة، بينما الحقيقة أن الأمر كان صراعًا على الحكم. انتهت المعركة بحيلة أخرى شهيرة، وهي رفع المصاحف على أسنة الرماح، ليبدأ انقسام جديد أدّى لاحقًا إلى ظهور الخوارج، ثم مقتل علي، وتمهيد الطريق لقيام الدولة الأموية. 


 “قميص عثمان” عبر التاريخ : نفس السيناريو، بوجوه جديدة 

لم يكن رفع “قميص عثمان” حدثًا معزولًا، بل أصبح نموذجًا يتكرر كلما احتاج طرف سياسي إلى تضخيم قضية معينة لتحقيق مكاسب خفية. وفي كل مرة، يتغير القميص، لكن اللعبة تبقى نفسها. 

 قميص الحسين: الوجه الآخر للمعادلة 

إذا كان معاوية قد استخدم دم عثمان، فقد جاء العباسيون لاحقًا واستخدموا دم الحسين بن علي بنفس الطريقة. بعد واقعة كربلاء (680 م)، أصبح الحسين رمزًا للمظلومية الكبرى، ورفعت صورته في وجه الأمويين لإسقاط شرعيتهم. لم يكن الهدف مجرد البكاء على مأساة الحسين، بل كان تعبئة الجماهير لصالح الدعوة العباسية، التي أطاحت بالأمويين عام 750 م. 

 “قميص 11 سبتمبر”: الحروب تُسَوَّقُ بالمظلومية 

في العصر الحديث، نجد مثالًا واضحًا على هذه الظاهرة في الطريقة التي استُغلت بها هجمات 11 سبتمبر 2001. كانت الضربة موجعة، والصدمة عالمية، لكن سرعان ما تحوّلت إلى ذريعة لتبرير غزو أفغانستان (2001) ثم العراق (2003).

– تم تسويق الحرب على أنها “انتقام من الإرهاب”، رغم أن صدام حسين لم يكن له علاقة مباشرة بالهجمات. 

– استُخدم الخوف من “أسلحة الدمار الشامل” لتبرير التدخل العسكري، رغم أنه لم يتم العثور على أي منها لاحقًا. 

– تحوّلت المأساة إلى أداة لبسط النفوذ، وليس فقط لملاحقة المتورطين الحقيقيين. 

 الربيع العربي: عندما تُستخدم الثورة قميصًا جديدًا 

في ثورات الربيع العربي (2010 – 2012)، رأينا كيف رفعت كل الأطراف شعار “حماية الثورة”، لكن كل طرف كان يسعى إلى تحقيق مكاسب خاصة. 

– في مصر، استخدمت قوى مختلفة “قميص الثورة” لإقصاء خصومها، سواء كان ذلك باسم الديمقراطية، أو باسم “إنقاذ الدولة من الفوضى”. 

– في سوريا، النظام رفع شعار “محاربة الإرهاب”، والمعارضة رفعت شعار “إسقاط الطاغية”، بينما في الواقع كان الصراع أكبر من مجرد ثورة أو قمع، بل كان إعادة ترتيب للقوى في المنطقة. 


 الخاتمة: هل نتعلّم من التاريخ؟ 

التاريخ يُعيد نفسه، ليس لأن البشر لا يتعلمون، بل لأن العواطف دائمًا أقوى من الحقائق. رفع “قميص عثمان” أصبح تقليدًا سياسيًا، حيث يُستخدم حادث مأساوي لإثارة المشاعر، ثم توجيهها نحو أهداف أخرى غير تلك المُعلنة. 

السؤال ليس: “من الذي رفع القميص هذه المرة؟”، بل: “ما الذي يحاول تحقيقه حقًا؟”. في كل مرة يُلوَّح فيها بمظلومية، يجدر بنا أن نسأل: هل القضية حقيقية، أم أن هناك من يستخدمها كأداة في لعبة أكبر؟

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى