شعر

تحليل قصيدة “بوابة الريح” للشاعر محمد الثبيتي

حين يُحوِّلُ الثبيتي الريحَ إلى لغةٍ، والرمالَ إلى أسئلةٍ

ليست قصيدةُ “بوابة الريح” لمحمد الثبيتي مجردَ نصٍّ مُعلَّقٍ في فضاء الكلمات، بل هي أشبهُ بسربٍ من الطيور المهاجرة تحملُ في أجنحتها عبءَ الصحراءِ وهمسَ النجوم. نُشرت القصيدةُ عام 2009، لكنها لم تُولدْ في ذلك العام، بل انبثقتْ من تراكمٍ أسطوريٍّ لصرخةِ الإنسانِ العربي في مواجهةِ فُحولَةِ الجغرافيا وقسوةِ الزمن. هنا، لا يكتفي الثبيتي بنَسْجِ المجازاتِ بل يَخْيطُها بإبرةٍ من لهب، فكلُّ كلمةٍ تُشبهُ نافذةً مُشرَّعةً على دهاليزَ من الغموضِ العاطفيِّ الذي لا يُفضي إلى إجاباتٍ، بل يُولِّدُ أسئلةً كالسراب. 

ماذا لو قلنا إنَّ هذه القصيدةَ ليست “رمزيةً” بالمعنى التقليدي، بل هي أحجيةٌ وجوديةٌ مُغَلَّفةٌ بلغةٍ ترفضُ الاستقرار؟ إنَّ الثبيتي هنا لا يَستعيرُ الرمزَ، بل يخلقُ كونًا موازيًا تُختَزَلُ فيه الريحُ إلى حارسٍ للأسرار، والبوابةُ إلى فجوةٍ في جدارِ الزمن. إنه يُلاعبُ الانزياحَ اللغويَّ كأنه عازفُ نايٍ في محرابِ الصمت، فيتحوَّلُ المعنى إلى ضبابٍ يلامسُ القُرَّاءَ دون أن يَمتلكهم. 

أما عن شعبيتها المتفاقمة، فهي ليست مجردَ استجابةٍ لبراعةٍ فنيةٍ، بل هروبٌ جماعيٌّ إلى فضاءٍ يُحرِّرُ الذاكرةَ من سجنِ الواقع. فالقصيدةُ، كصحراءِ الثبيتي نفسها، تَمنحُ الوهمَ بأنَّ القارئَ يمتلكُها، بينما هي تَنسحبُ منه كالخيال، تاركةً إياه في مواجهةِ ألغازِهِ الخاصَّة. هل نُحلِّلُها؟ ربما، لكنَّ التشريحَ اللغويَّ هنا يُشبهُ محاولةَ الإمساكِ بالماء؛ فكلُّ استعارةٍ تنفتحُ على تأويلاتٍ كالمرايا المُتعاكسة. 


“شراعي والريح”: حين يتحوَّلُ الإبحارُ إلى طقسٍ تأويليٍّ في مملكةِ الثبيتي السريالية 

لا يُقدِّمُ الثبيتي في “بوابة الريح” صورًا شعريةً فحسب، بل ينحتُ عوالمَ موازيةً بإزميلِ اللاوعي الجمعيّ. فـ”شراعي” هنا ليس مركبةً بحريةً، بل ذراعٌ ممدودٌ من الروحِ يخترقُ حُجُبَ الواقع، و”الريحُ” ليست هبةً طبيعيةً، بل هي الحاضنةُ الأسطوريةُ لِصرخةِ الغائبِ في الذات العربية. هذا التناقضُ الظاهريُّ بين الثباتِ (الشراع) والحركةِ (الريح) يُشبهُ لوحةً سرياليةً تُعلِّمُ العينَ أن ترى بالأذن، وتُحوِّلُ القصيدةَ إلى فضاءٍ يُعيدُ تشكيلَ قواعدِ الإدراك. 

أما الانزياحُ بين الزمانِ والمكان، فليس مجردَ تقنيةٍ سردية، بل هو انعكاسٌ لِشقِّ الوجودِ العربي بين انتماءٍ إلى ترابِ الصحراءِ واشتياقٍ إلى أفقٍ مائيٍ لم يَرقُ بعدُ إلى مستوى الأسطورة. يبدو الثبيتي كأنه يُديرُ لعبةَ مرايا كُبرى: فكلُّ مشهدٍ بصريٍّ يَجرُّ خلفَه شلالًا من التأويلاتِ التي تتناسلُ كالظلالِ تحت شمسِ الظهيرة. هل هذه “رحلةٌ روحيةٌ” حقًّا؟ ربما، لكنها رحلةٌ تذكرنا بـ”أوديسيوس” وهو يضيعُ في بحرِ الذات، أو بـ”السالكين” الصوفيين وهم يَطحنونَ الزمنَ في رحى المجهول. 

وإذا كان السردُ يَتنقَّلُ بين العوالم، فإن القارئَ هنا ليس مُتلقِّيًا، بل مُشاركٌ في طقسٍ شعريٍّ تذوبُ فيه الحدودُ بين الحلمِ واليقظة. العوالمُ المُتعددةُ ليست فصولًا منفصلةً، بل طبقاتٌ من وعيٍ واحدٍ مُتشظٍّ، كمرآةٍ مُحطَّمةٍ تعكسُ وجهَ القارئِ مئاتِ المرات. هل يُمكننا الحديثُ عن “أزمنةٍ مُتعددة” في القصيدة؟ الأصحُّ أن نقولَ إن الزمنَ هنا يُشبهُ نهرًا جافًّا تُلقى فيه ساعاتُ التاريخِ فتصيرُ حجارةً صمّاء. 

في النهاية، ليست الصورُ الشعريةُ في “بوابة الريح” أدواتٍ جماليةً، بل مصائدُ أسئلةٍ تُقلقُ راحةَ المعنى. فالشاعرُ لا يَصنعُ رمزًا، بل يَصنعُ وَعْيًا جديدًا بالرمالِ والرياح، وكأنما يُخبرنا: انظروا، فالصحراءُ ليست قفرًا، بل مكتبةٌ مفتوحةٌ تكتبُها الريحُ بأحرفٍ من ظمأ. فهل نقرأ القصيدةَ أم تُقرؤنا؟


كلمات القصيدة

“مضى شراعي بما لا تشتهي ريحي”

لا يُلقي الثبيتي في هذا البيتِ كلماتٍ، بل يُلقي مُعضلةً وجوديةً على مذبحِ اللغة. فـ”الشراعُ” هنا ليس أداةً بحريةً، بل جسدُ الشاعرِ نفسه وقد صارَ مركبةً للتمرد. و”الريحُ” ليست قوةً طبيعيةً، بل هي قَدَرٌ مُتقلِّبٌ يَنفُضُ غبارَ اليقينِ عن طاولةِ الحياة. لكنَّ الثبيتي لا يَصِفُ صراعًا بين الإرادةِ والظروف، بل يَكشفُ أنَّ الشراعَ (الإنسانَ) قد صارَ سجينَ حركتهِ الذاتية، كأنما الإبحارُ باتَ لعنةً لا اختيارَ فيها. 

العبارةُ تُذكِّرُنا بـ”سيزيف” وهو يُدحرجُ صخرتَه، لكنْ بفارقٍ جوهريٍّ: فالشاعرُ هنا لا يُكرِّرُ العبثَ، بل يَختزِلُهُ في مفارقةٍ لغويةٍ تَعبثُ بالمنطق. “مضى شراعي” كأنما الحركةُ سَبَقَتْ إرادةَ الريح، فالماضي (“مضى”) يَسحقُ الرغبةَ الحاضرةَ (“لا تشتهي”)، وكأنَّ الزمنَ نفسَهُ صارَ خصمًا للوجود. هل نحنُ أمامَ استعارةٍ أم أمامَ نبوءةٍ؟ 

اللغةُ هنا تَلعبُ دورَ الجلادِ والضحيةِ معًا: فالفعلُ “مضى” يَجُرُّ خلفَهُ صوتَ القطيعةِ، بينما “تشتهي” تَحمِلُ في أحشائِها أنينَ الرغبةِ المكبوتة. كأنَّ الثبيتي يُجري عمليةَ تشريحٍ لِلمسافةِ بين الفعلِ والرغبة، فيُظهرُ أنَّ الشراعَ (الإنسانَ) يَسبقُ ريحَهُ (حلمَهُ) كظلٍّ هاربٍ من جسدِهِ. 

هذا البيتُ ليس مجردَ تصويرٍ لِصراعٍ، بل هو احتجاجٌ على هندسةِ المعنى ذاته. فالشاعرُ يَقلبُ المعادلةَ الرمزيةَ رأسًا على عقب: الشراعُ (الذي يفترضُ أن يكونَ عبدًا للريحِ) يَفرضُ مسارَهُ عليها، لكنْ بثمنٍ فادحٍ: انفصامٌ بين الحركةِ والرغبة. هل هذهَ نصرٌ أم هزيمةٌ؟ الثبيتي يَتركُ الإجابةَ عالقةً كغيمةٍ مسمومةٍ فوقَ رأسِ القارئ. 

في المُحصلة، البيتُ يُشبهُ طلسمًا يختزلُ مأساةَ الإنسانيِّ في عصرِ اللايقين: أن تَتحرَّكَ بِقوةٍ نحوَ لا شيء، أن تَشقَّ البحرَ بِشراعٍ مُمزقٍ بين ريحين… ريحِ الماضي التي تَرفضُ أن تموتَ، وريحِ المستقبلِ التي تَرفضُ أن تولدَ.


“أبحرتُ تهوي إلى الأعماق قافيتي”

لا يَغوصُ الثبيتي هنا في بحرِ الكلمات، بل يَشقُّ جوفَ اللغةِ بمشرطِ المجهول. فـ”القافيةُ” ليست نظامًا موسيقيًّا، بل سُلّمٌ سحريٌّ يُدلي الشاعرُ بنفسهِ عبرَ درجاتهِ إلى حيثُ تَتحوَّلُ الكلماتُ إلى وحوشٍ تأكلُ ذاتَها. “أبحرتُ تهوي” ليست حركةً اختياريةً، بل سُقوطٌ ميتافيزيقيٌّ في فخِّ الإبداع: فالشاعرُ يُدركُ أنَّ الإبحارَ نحوَ الأعماقِ هو ارتقاءٌ مُعاكسٌ، وأنَّ البحثَ عن المعنى أشبهُ بملاحقةِ سرابٍ يفرُّ كلما اقتربتَ منه. 

القصيدةُ هنا تَخونُ نفسَها: “قافيتي” التي يفترضُ بها أن تكونَ مرساةً للايقاع، تتحوَّلُ إلى حجرِ رحى يجرجرُ الشاعرَ إلى قاعٍ لا قرارَ له. هل نحنُ أمامَ استعارةٍ للاكتشافِ أم اعترافٍ بالغرق؟ الثبيتي يُجيبُ بصمتٍ: إنَّهما وجهانِ لعملةٍ واحدة. فـ”الأعماقُ” التي يتحدثُ عنها ليست فضاءً للكشفِ، بل متحفٌ لأوهامِ اللغةِ البائدة، حيثُ تتعفنُ المعاني القديمةُ وتنبتُ مكانَها ألغازٌ جديدةٌ كالفطريات. 

البيتُ يُذكِّرُنا بـ”إيكاروس” وهو يَحرقُ جناحيهِ بالقربِ من الشمس، لكنَّ الثبيتي يَخترعُ سقوطَه الخاص: فهو لا يسقطُ بسببِ شغفٍ بالتحليق، بل لأنَّ الأرضَ نفسَها تَنهارُ تحتَ قدميه. “القافيةُ” هنا أشبهُ ببوصلةٍ مكسورةٍ تُشيرُ إلى كلِّ الاتجاهاتِ إلا اتجاهَ الخلاص. هل يُمكننا قراءةُ هذا البيتِ كصرخةٍ ضدَّ عبثيةِ الشعرِ ذاته؟ ربما، لكنها صرخةٌ تُزيّنُ نفسَها بأكاليلِ المجازِ كي لا يُلاحظَ أحدٌ دمَها الخفي. 

في هذا الانزياحِ الكبير، يَصيرُ الشاعرُ ضحيّةَ لغتهِ وبطلاً لها في آن. “أبحرتُ تهوي” ليست رحلةً بل انتحارٌ إبداعيٌّ: فالثبيتي يَقطعُ حبلَ النجاةِ بين المعنى والمبنى، ويَتركُ القارئَ في دوامةٍ لغويةٍ تبتلعُ كلَّ يقين. هل هذا بيانٌ شعريٌّ أم نعيٌ مسبقٌ للشعر؟ الإجابةُ تطفو على السطحِ كفقاعةِ هواءٍ من أعماقِ بيتِهِ هذا: كلماتٌ تُشبهُ أجنحةَ فراشاتٍ محنطةٍ في متحفِ اللغة.


“ما جردت مقلتاها غير سيف دمي” 

هذا البيتُ ليس مجردَ تعبيرٍ عن الألم، بل هو محكمةٌ سريةٌ تُقامُ في قاعةِ الجسد. فـ”مقلتاها” ليست عينينِ تُبصران، بل سَيفانِ من ظلامٍ مُقدَّس، يَجرحانِ دون أن يَلمسا. لكنَّ الثبيتي لا يَكتفي بتحويلِ النَّظرِ إلى جريمة، بل يُقلبُ المعادلةَ: فـ”سيفُ دمي” ليس أداةَ قتلٍ، بل دليلُ إدانةٍ ضدَّ الذات. كأنما الشاعرُ يقول: انظروا، لقد صارَ جسدي ساحةً للحربِ، ودمي القَتيلُ هو الجلادُ والشهيدُ معًا. 

البيتُ يُعيدُ تشكيلَ هندسةِ العذاب: فالعينُ (المُلهِمة/المحبوبَة) لا تُطلقُ سهامَها، بل تَسترخي كمرآةٍ تُجبرُ الشاعرَ على أن يَرى في دمِهِ سيفًا. أيُعقلُ أن يكونَ الحُبُّ إعدامًا ذاتيًّا؟ الثبيتي يُجيبُ بأنَّ الغرامَ هنا ليس انكسارًا، بل انزياحٌ جذريٌّ عن منطقِ المشاعر؛ فالمحبوبةُ لا تَسلُبُه الحياةَ، بل تُلزمُهُ أن يَذبحَ نفسَهُ مرارًا على مذبحِ الكلمات. 

“سيفُ دمي” استعارةٌ تُذكِّرُ بأساطيرِ الخلقِ المقلوبة: فبدلًا من أن يَخْرجَ الإنسانُ من طينٍ، يَخْرجُ السيفُ من دمٍ. الدمُ هنا ليس سائلاً حيويًّا، بل مادةٌ سحريةٌ تتحوَّلُ إلى سلاحٍ يُوجَّهُ ضدَّ مُلَهِمِهِ. هل نحنُ أمامَ تضحيةٍ أم انتحارٍ شعري؟ الأرجحُ أنَّ الثبيتي يَخلطُ الأوراقَ ليُظهرَ أنَّ الشعرَ الحقيقيَّ هو دمٌ يَتبرعُ به الشاعرُ طوعًا، دون أن يَطلبَ أحدٌ ذلك. 

في هذا السياق، العينُ ليست مصدرَ العذاب، بل كاشفُهُ. فـ”مقلتاها” تعملانِ كمِجْهَرٍ يُضخِّمُ جرحًا كانَ خفيًّا، فيُصيرُ الدمُ سيفًا، أي أنَّ الألمَ يَكتسبُ شرعيةَ الفنِّ. كأنَّ الشاعرَ يُعلنُ أنَّهُ لم يُولدْ إلّا حينَ صارَ جسدُهُ حبرًا، وعذابُهُ قصيدةً. 

هذا البيتُ يُشبهُ طقسًا من طقوسِ “التصعيدِ العكسي”: فبدلًا من تطهيرِ المشاعرِ بالكتابة، يَغمسُ الثبيتي القلمَ في جرحِهِ ليكتبَ بلغةٍ لا تفهمُها سوى الأرواحُ العطشى. هل نجحَ؟ الإجابةُ في ذلكَ الصمتِ الذي يَعقبُ القراءة، حينَ تَكتشفُ أنَّ السيفَ لم يكنْ سوى مرآةٍ تُريكَ وجهَكَ ملطخًا بأسئلةٍ لا جوابَ لها.


“بوابة الريح”: حين يُصبحُ الرمزُ فخًّا للزمنِ، واللغةُ ممرًّا إلى الهاوية 

ليست رمزيةُ الثبيتي هنا زخرفًا جماليًّا، بل هي فخٌّ نصيٌّ نصبهُ الشاعرُ لِيُمسكَ الزمنَ أحيانًا، ويُفلتَ منه أحيانًا أخرى. فـ”الريحُ” ليست مجردَ استعارةٍ عن دهرٍ غادر، بل هي كائنٌ أسطوريٌّ يَلعقُ ذاكرةَ الصحراءِ بلسانٍ من نار. أما “البوابةُ”، فهي ليست ممرًّا إلى عالَمٍ آخر، بل شَقٌّ في جدارِ الوجودِ يَسمحُ للعدمِ بالتسربِ إلينا. هكذا يُحوِّلُ الثبيتي التفاعلَ بينهما إلى مبارزةٍ ميتافيزيقية: الزمنُ يَدفعُ بالبوابةِ لتَفتحَ على مَجهولٍ، والبوابةُ تَصرخُ بأنَّ الريحَ سرقتُ مفاتيحَها. 

لا ينبغي قراءةُ هذه الرمزيةِ بمنطقِ التطابقِ (الريح=الزمن، البوابة=التحوُّل)، بل بمنطقِ التيهِ الذي يُنتجُهُ الانزياحُ الدلاليُّ. فالثبيتي يَخلعُ على “الريحِ” صفاتِ الغائبِ الحاضر: تَهُبُّ من الماضي كي تُذكِّرَنا بأنَّ المستقبلَ وهمٌ، وتَعبثُ بالبوابةِ كي تُثبتَ أنَّ كلَّ المداخلِ تؤدي إلى الفراغ. إنَّها لعبةُ مرايا مُعتمةٍ، حيثُ يَرى القارئُ في الرمزِ انعكاسَ أزمتِهِ قبلَ أن يرى مرماهُ. 

أما الصراعُ بين الإنسانِ والزمن، فهو هنا لا يُعبَّرُ عنه بالصرخةِ المباشرة، بل بتفكيكِ اللغةِ نفسِها. فكلمةُ “بوابةِ” تُذكِّرُنا بـ”بابِ” دانتي في الكوميديا الإلهية، لكنَّ عتبةَ الثبيتي لا تقودُ إلى جحيمٍ أو فردوس، بل إلى صحراءٍ تبتلعُ البصمات. هل نحنُ أمامَ رمزيةٍ مفتوحةٍ أم أمامَ لغزٍ يُعلنُ استسلامَهُ مسبقًا؟ الأرجحُ أنَّ الثبيتي يَصنعُ من الرمزِ فخًّا: فكلما ظننتَ أنَّكَ فككتَ شفرتَهُ، اكتشفتَ أنَّكَ وقعتَ في شبكةِ تأويلٍ جديدة. 

هذه الرمزيةُ المتوحشةُ ليست ترفًا أدبيًّا، بل هي ذاكرةُ الشاعرِ وهو يُحاولُ تدوينَ سقوطِهِ في هاويةِ اللايقين. كأنَّ الثبيتي يقول: انظروا، لقد صارَ الرمزُ جثةً تُدفنُ فيها أحلامَنا، والبوابةُ مجردُ حفرةٍ نَرمي فيها أسئلتَنا. فهل نخرجُ من هذه القصيدةِ بأجوبةٍ، أم أنَّنا نَخسرُ حتى القدرةَ على الصياح؟


العلاقة بين الشاعر والطبيعة

لا يَسردُ الثبيتي علاقتَهُ بالطبيعة، بل يُجري محاكمةً صامتةً لها أمامَ محكمةِ الروح. فـ”الريحُ” ليست مجردَ عنصرٍ طبيعيٍّ، بل شاهدُ إثباتٍ على جريمةٍ كونية: اغتيالُ الزمنِ تحتَ سطوةِ الفراغ. و”الليلُ” هنا ليس غيابًا للشمس، بل مُذنّبٌ أسودُ يجرجرُ وراءَهُ ذكرياتِ الصحراءِ المُغْبرة. حتى “النخلُ” يَخرجُ من دلالتهِ الزراعيةِ ليصيرَ أعمدةً تهدمُها الريحُ في معبدِ الذاكرة. 

هذه العناصرُ ليست استعاضةً عن المشاعرِ، بل هي رُفاتُ أحلامٍ قديمةٍ تُنبتُ أسئلةً جديدة. عندما يَذكرُ “الشيحَ”، لا يَستحضرُ نبتةً بقدرِ ما يَفتحُ جرحًا أنثروبولوجيًا: فَرائحةُ الشيحِ هنا ليست عطرًا، بل شيفرةٌ جينيةٌ لحضارةٍ تَئنُّ تحتَ رمالِ النسيان. الطبيعةُ عند الثبيتي ليست مرآةً لعواطفِه، بل ساحةُ معركةٍ يَخسرُ فيها الإنسانُ ويَربحُ الشيطانُ الرمليُّ في آن. 

أما الانزياحُ بين الليلِ والنهار، فليس تقليبًا زمنيًا، بل انفصامٌ في الشخصيةِ الكونية. النهارُ هنا يَلُفُّ نفسَهُ كأفعى حولَ جذعِ الصبر، بينما الليلُ يُشبهُ طبيبَ شرعيٍ يُشرّحُ جثةَ النهارِ ليعثرَ على بصماتِ القاتلِ المجهول. الثبيتي لا يَصفُ دورةَ الوجود، بل يَخيطُ ثوبًا من ظلالٍ لمعانقِ الفراغ. 

في النهاية، ليست الطبيعةُ ملجأً للشاعر، بل متهمٌ رئيسيٌّ في قضيةِ اغترابِ الإنسانِ عن ذاته. كلُّ ورقةِ نخلةٍ تسقطُ تُشبهُ صفحةً من مذكراتِ الصحراء، وكلُّ نسيمٍ يهبُّ يُعيدُ تشكيلَ خريطةِ الجحيمِ الشخصيّ. هل يُصلحُ الثبيتي علاقتَنا بالطبيعة؟ لا، بل يُثبتُ أننا أيتامٌ نلهو بدمى الرمالِ بينما العالمُ الحقيقيُّ يغادرُ من البوابةِ الخلفيةِ للقصيدة.


سيرةُ الشاعرِ مع سرابِ الذاتِ في مرآةِ القصيدة

ليست “بوابةُ الريحِ” مُجردَ رمزٍ للبحثِ عن الذات، بل هي جِراحةٌ مفتوحةٌ في جسدِ الهويةِ العربيةِ الحديثة. فالثبيتي لا يَسعى هنا، بل يُمارسُ طقسَ السيرِ ضدَّ التيار؛ بحثًا عن بقايا إنسانٍ ضاعَ بين صحراءِ التراثِ ومطرقةِ الحداثة. البوابةُ ليست ممرًّا، بل هي ذاتُها الهدفُ المُلغز: فكلما اقتربَ منها الشاعرُ، انكشفتْ لهُ كمرآةٍ تُعيدُ تشكيلَ وجههِ بأقنعةٍ جديدة. 

هذه “الحقيقةُ الداخلية” التي يَبحثُ عنها ليست جوهرًا مكتملًا، بل شظايا مرآةٍ تَجرحُ الأصابعَ حينَ نحاولُ تجميعَها. الثبيتي لا يُريدُ إجاباتٍ بقدرِ ما يُريدُ أن يُحوِّلَ السؤالَ نفسه إلى وَطَنٍ مؤقت. فصراعُهُ مع المجهولِ ليس معركةً ضدَّ الظلام، بل رقصٌ مع أشباحِ الذاتِ في قاعةِ المرايا. القصيدةُ هنا تُشبهُ مُختبرًا كيميائيًا تُسكبُ فيهِ الذاكرةُ على نارِ الحاضر، فتَنبعثُ غازاتُ الأسئلةِ الخانقة. 

أما “الفجرُ الجديد” الذي يَتوهمُ الوصولَ إليه، فهو خديعةٌ سرديةٌ ينسجُها الشاعرُ لِيُبررَ استمرارَ الإبحار. فالقصيدةُ لا تنتهي عندَ ضفةٍ، بل تَغرقُ في محيطِها الخاص. “قافيتي” ليست أداةَ إبحارٍ، بل بذرةُ جنونٍ تُنبتُ في كلِّ سطرٍ بحرًا جديدًا من الحيرة. هل يُمكنُنا القولُ إنَّ الثبيتي يَخدعُ نفسَهُ بالبحثِ كي لا يُواجهَ فظاعةَ اليقين؟ 

في المُحصلة، “بوابةُ الريحِ” ليست نصًّا شعريًا، بل هي جثةُ الهويةِ العربيةِ تُشرَّحُ على طاولةِ اللغة. الشاعرُ لا يَكتشفُ ذاتَهُ، بل يُعيدُ تشكيلَ ضياعِهِ كلَّ مرةٍ بلغةٍ أكثرَ خِداعًا. هل هذهَ خيانةٌ للشعرِ أم إخلاصٌ لقسوتِهِ؟ الإجابةُ تَطيرُ مع الريحِ، تاركةً خلفَها أثرًا من الغبارِ يُشبهُ اسمَ الشاعرِ: أحرفٌ تائهةٌ على خريطةِ اللاانتماء.


ختامًا

في الختام، ليست “بوابة الريح” تحفةً أدبيةً فحسب، بل هي اختبارٌ لقدرةِ الشعرِ على تحويلِ اللغةِ إلى كائنٍ حيٍّ يَنزفُ أسئلة. هل نجح الثبيتي؟ الإجابةُ تكمنُ في ذلك الصمتِ الذي يَتبعُ قراءتَها، حين يُدركُ المرءُ أنَّ الكلماتَ كانتْ مجردَ أصداءٍ لِما لم يُقَلْ بعدُ.


المراجع

– محمد الثبيتي، “بوابة الريح”، 2009م.

– دراسات نقدية حول أعمال الشاعر محمد الثبيتي.

روابط خارجية

– قراءة القصيدة كاملة على موقع الشاعر محمد الثبيتي.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى