“سفر سفر”: تشريح الوجود الفلسطيني بين الرمز والتمرد في شعر معين بسيسو
“سفر سفر” ليست قصيدةً تُقرأ، بل تُستنشق كرائحة ترابٍ مختلطٍ بدمٍ وبحر. معين بسيسو لا يكتب الشعر، بل يحفر في جسد الذاكرة الفلسطينية بإزميلٍ من نار. التكرار اللغوي في العنوان ليس مجرد إيقاع، بل هو صدى لسؤالٍ وجودي: كيف يصير السفرُ قدراً، والوطنُ حقيبةً من قماش؟ هنا، لا مكان للثبات؛ كل شيءٍ يتحرك، يغرق، يعود، وينكسر.
البنية: فوضى مُنظَّمة
القصيدةُ تُشبه خريطةً ممزقة: أبياتٌ مفتوحة، تقاطُعٌ بين الأسطورة والواقع، وتدفقٌ لغويٌّ يرفض الانضباط. هذه الفوضى ليست عشوائية، بل هي مرآةٌ لتشتت الهوية الفلسطينية. التكرار (“سفرٌ / سفرْ”) يُحيل إلى دورة المعاناة التي لا تنتهي، بينما الانزياحات المفاجئة في الصور (“البرق شوكٌ في يديَّ / الرعدُ عُشبْ”) تُجسِّد صدمة الاغتراب. حتى علامات الاستفهام والتعجب (“من أنا؟”) تُحول القصيدة إلى حوارٍ داخليٍّ مُزلزل.
الرمز: الوطن بين المطر والموت
يُغرق بسيسو القصيدة برموزٍ تتناقض كالحياة نفسها:
– المطر : ليس ماءً، بل سائلاً متعدد الألوان : “مطرٌ بلون البنفسج”، “مطرٌ بلون الياسمين”، “مطرٌ بلون الموت”. هو دموعٌ، ذكرى، وأحياناً غسيلٌ للجراح.
– البحر : سجّانٌ وقاتل. “سُفنٌ كلابُ البحر” تُحيل إلى قوة الاستعمار التي تحوِّل البحر إلى حاجز، بينما “الموج يُترجمني إلى كل اللغات” يرمز إلى تشظي الهوية في المنفى.
– الشجر : جذورٌ تبحث عن أرض. “شجرٌ على الأمواج” صورةٌ سوريالية تعكس استحالة الإنبات في عالمٍ مُقلوب.
اللغة: سكينٌ تُشرِّح الواقع
بسيسو يلعَبُ باللغة كأنها صلصال
– التناص الديني والأسطوري : “جبريل” و”المتنبي” و”نوح” يُدخلون القصيدة في حوارٍ مع التاريخ، بينما “الحجل” و”الذئب” يستحضرون عالم التراث الشعبي كسلاحٍ ضد النسيان.
– الانزياحات الجريئة : “الشمسُ نحلة” و”الرصاصة مثقوبة بجرادة” تحوِّل المألوف إلى غريب، مفتِّتةً اليقين.
– التكثيف الدرامي : “أمشي تُخبئني يدايْ / أمشي وتذبحني يدايْ” تُلخص مأساة الفلسطيني : جسده ساحة حرب بين البقاء والفناء.
السياق: الشعر كمقاومة
في زمنٍ يُحاصر فيه الفلسطيني بالخرائط المُزيفة، تحوِّل القصيدةُ اللغةَ إلى فعلٍ ثوري:
– سؤال الهوية : “من أنا؟ القرمطي؟ البرمكي؟ الأمريكي؟ السوفييتي؟” يسخر بسيسو من التصنيفات الجاهزة، مُعلناً أن الهوية الفلسطينية كالشظية: لا تنتمي إلا لجُرحها.
– النقد الذاتي : “هُمُ العربُ / ولا عربُ” تهزُّ القصيدةُ الضميرَ العربي، مُندِّدةً بالخيانة والفساد.
– المقاومة بالكلمة : “سأظلُّ فوق الموج / لستُ غريقَكُمْ / فأنا الغرق” هنا يتحول الشاعر إلى شاهدٍ يتحدى الموت بالكتابة، مُعلناً أن الشعرَ وطنٌ لا يُغتصب.
الخاتمة: سفرٌ بلا نهاية
“سفر سفر” قصيدةٌ لا تُختتم؛ كل سطرٍ فيها يُعيد تشكيل السؤال : كيف نحمل الوطن حين يصبح الحنينُ جرحاً؟ بسيسو لا يُجيب، بل يفتح نوافذَ اللغة لتدخل رياحُ الثورة. هنا، يصير الشعرُ بطاقةَ عبورٍ إلى وطنٍ لم يُخلق بعد، لكنه يُولد كل يومٍ في دماء الذين يرفضون أن يُدفنوا تحت التراب.
للاطلاع على قصيدة ‘سفر سفر’ كاملة ومعرفة تفاصيلها، يمكنكم زيارة الرابط التالي على موقع الديوان: [ قصيدة ‘سفر سفر‘]