نجمة داود: تاريخها، معناها الخفي، ودلالاتها عبر العصور

أترى هذا الشكل السداسي البسيط، المتشابك كأنه لغزٌ هندسي؟ إنه ليس مجرد خطوطٍ متقاطعة، بل هو “نجمة داود”، رمزٌ شغل البشرية منذ فجر التاريخ، فتنازعته الأساطير والأديان والسياسة، وتحول من زخرفةٍ جمالية إلى أيقونةٍ للخلاف والقداسة! فكيف لشكلٍ هندسي أن يصبح مرآةً لعوالم الروح والصراعات الأرضية؟ دعنا نغوص في أعماق هذا الرمز الغامض، نكشف عن جذوره الضاربة في القدم، ونفك شفراته التي حيّرت العُلماء والمُتصوفين على مر العصور.
الفصل الأول: الأصل التاريخي.. حين تلتقي الأسطورة بالحفريات
1. الجذور القديمة: من بلاد الرافدين إلى أرض كنعان
قبل أن تُولد الديانة اليهودية بألف عام، كانت النجمة السداسية تتراقص على جدران معابدِ مصر القديمة، وتتوهج في أختامِ بلاد الرافدين! ففي مدينة أور السومرية، عُثر على ختمٍ طيني يعود إلى 2500 ق.م يحمل الشكل السداسي، ربما كرمزٍ للخصوبة أو الحماية. أما في الهند، فقد ارتبطت بالـ “ماندالا” كتعبير عن توازن الكون. لكن الغريب أن اليهود الأوائل –حسب بعض المؤرخين– لم يعرفوها، بل ربما استعاروها من جيرانهم الكنعانيين الذين عبدوا الآلهة “عشتروت” تحت راية النجمة السداسية!
2. الملك داود: بين الدرع المزعوم والواقع المفقود
تتحدث الأسطورة التوراتية عن درعٍ نحاسي حمله الملك داود في حروبه، نُقشت عليه النجمة السداسية لتُحصّنه من الأعداء. لكن أين الدليل الأثري؟ لطالما بحث المنقبون عن أثرٍ لهذا الدرع في تلال القدس، لكنهم لم يعثروا سوى على ختمٍ صغير من القرن السابع قبل الميلاد –أي بعد عهد داود بثلاثة قرون– يحمل اسم “يهوذا” مع نجمة سداسية! فهل اختلق الحاخامات في العصور الوسطى هذه القصة لربط النجمة بأسطورة داود، أم أنها مجرد استعارة رمزية لـ “الملك المثالي” الذي يجمع بين السلطة الروحية والدنيوية؟
3. من زخرفةٍ هامشية إلى رمزٍ قومي
في القرن الثالث عشر، بدأت النجمة تظهر على شواهد قبور يهود أوروبا، ثم تحولت إلى شعارٍ للمجتمعات اليهودية في براغ وفيينا. لكن المفارقة العجيبة أن قرار اعتمادها كرمزٍ لدولة إسرائيل عام 1948 لم يكن إلا ثمرةً لتصويتٍ مُثير! نعم، فقد رفضت اللجنة التأسيسية في البداية النجمة السداسية، واقترحت بدلاً منها “شمعدان المينورا“، لكن “دايفيد بن غوريون” أصر على النجمة لأنها –حسب قوله– “أبسط في الرسم وأقوى في التعبير”! وهكذا، وُلد العلم الإسرائيلي من رحم الصدفة السياسية.
الفصل الثاني: المعنى والدلالات.. عندما يتحدث الشكل بلغة الروح
1. الهندسة المقدسة: اتحاد السماء والأرض
انظر إلى النجمة بعين الفيلسوف: مثلثان متعاكسان، أحدهما يشير إلى الأعلى كرمزٍ للطموح الإلهي، والآخر إلى الأسود كتعبيرٍ عن الجذور الأرضية. هذا التقاطع –في عرف القبالاه– يمثل التوازن الكوني بين “الخير والشر”، “الذكر والأنثى”، بل إن العدد 6 (عدد أضلاع النجمة) يحمل أسراراً باطنية، فهو مجموع أيام الخليقة، وعدد اتجاهات الكون (شمال، جنوب، شرق، غرب، فوق، تحت). حتى أن عالم الرياضيات “باسكال” أطلق عليها “النجمة السحرية” لقدرتها على حل المعادلات المستحيلة!
2. في قلب اليهودية: بين التلمود والخرافة
يرى الحاخام “إليعازر” أن النجمة ترمز إلى هيمنة الله على كل الزوايا الست للكون، بينما يربطها الصوفيون اليهود بـ “خاتم سليمان” الأسطوري الذي سيطر به على الجن! لكن الغريب أن التلمود –أقدس كتب اليهود– لم يذكرها ولو مرةً واحدة! فكيف تحولت من رمزٍ هامشي إلى أيقونةٍ دينية؟ الإجابة تكمن في العصور الوسطى، حين استخدمها اليهود كتميمةٍ ضد “العين الشريرة”، ورسموها على أبواب منازلهم هرباً من الملاحقات المسيحية.
3. النجمة في عين العاصفة السياسية
أصبحت النجمة اليوم سكيناً ذات حدين: فهي بالنسبة لليهود شعارٌ للفخر القومي، لكنها في الخطاب العربي رمزٌ للاحتلال. لقد حاول الفنان الفلسطيني “بلال خليل” تفكيك هذه الدلالة بلوحةٍ شهيرة حوّل فيها النجمة إلى قفصٍ يحبس طائراً يرفرف بألوان العلم الفلسطيني! أما في الغرب، فتارةً تُرى على صدور نجوم هوليوود كموضةٍ ثقافية، وتارةً تُحرق في مسيرات اليمين المتطرف. إنها –باختصار– مرآةٌ لعالمٍ ممزق بين القداسة والكراهية.
الفصل الثالث: النجمة في مرايا الأديان الأخرى.. التناقض الذي يوحّد
1. في الإسلام: بين الزخرفة والتابو
تجده في زخارف مسجد القيروان بتونس، وعلى صفحات مخطوطات أندلسية، بل إن بعض الفرق الصوفية اعتبرته رمزاً لوحدة الوجود. لكن المفارقة أن النجمة السداسية –رغم جمالها الهندسي– تحولت في الخطاب الإسلامي المعاصر إلى تابو، يُربط بالصهيونية دون ذكر تاريخها الإسلامي المجيد!
2. في المسيحية: الصليب والنجمة.. توأمان متنافسان
في كنيسة القديس بطرس بروما، تُزين النجمة نوافذَ تعود للقرن الخامس، كرمزٍ لاتحاد الطبيعة الإلهية والبشرية في المسيح. أما الأقباط المصريون، فقد نحتوها على جدران الأديرة كحارسٍ من الشياطين. لكن مع صعود الصراع العربي الإسرائيلي، اختفت النجمة تدريجياً من الفن المسيحي، كأنما التاريخ يمحو ما لا يعجبه!
أسئلة شائعة: ما وراء الأكذوبة والحقيقة
– هل صحيح أن النازيين استخدموها قبل اليهود؟
كلا، هذه مغالطة! النازيون أجبروا اليهود على خياطة النجمة الصفراء على ملابسهم كعلامةٍ عار، لكنهم لم يبتكروها، بل سرقوها من التراث اليهودي نفسه.
– ما سر التشابه بينها وبين نجمة إسلامية سباعية؟
النجمة السباعية (الهيلاج) في الإسلام ترمز إلى السموات السبع، بينما السداسية تعكس فلسفةً مختلفة. التشابه شكليٌ فقط، كاختلافٍ بين لغتين لهما نفس الحروف!
الخاتمة: النجمة.. رمزٌ يبحث عن معنى
هل كانت نجمة داود مجرد ضحيةٍ للتاريخ، أم أنها صنعت تاريخاً من ضحاياها؟ لعل الإجابة تكمن في تلك القدرة الفذة للرموز على التحول من أدواتٍ جمالية إلى أسلحةٍ سياسية. فكما قال الفيلسوف “أمبرتو إيكو“: “الرمز كالنهر، يحمل مياه الحياة للعطشى، ويغرق من يجهل عمقه“. ربما علينا –قبل أن نحكم على النجمة– أن نتذكر أنها مرتّبةٌ من مثلثين: واحدٌ للسماء، وآخر للأرض، وبينهما مساحةٌ للقلب البشري الذي يملأها بالحب تارة، وبالدم تارةً أخرى.