المصطلحات

مفهوم رعاية الأطفال في الإسلام: الأمانة الإلهية وبناء الحضارة

كأنَّ الإسلام، وهو يرفع راية العدل والرحمة، قد جعل من الطفلِ مرآةً تعكسُ نقاءَ روحِه، فلم يتركْ شاردةً ولا واردةً في شأن الطفولة إلا رسمَ لها منهجًا يُحيطُها بالعنايةِ من قبل أن تُولدَ، ويحفظُ حقوقَها حتى تُدركَ سنَّ الرشد. فالطفلُ في الإسلامِ ليس كائنًا عابرًا، بل هو أمانةٌ تُحمَلُ على أعناقِ الآباءِ والأمهاتِ، والمجتمعِ بأكمله، ورسالةٌ تُورَثُ عبر الأجيال. فكيف نظر الإسلامُ إلى هذه الأمانة؟ وما الأسسُ التي جعلت رعايةَ الأطفالِ عمادًا لبناءِ الحضارةِ الإنسانية؟


الفصل الأول: في معنى “الرعاية”.. من اللغة إلى روح الشريعة

لا تُختزلُ كلمةُ “الرعاية” في قواميسِ اللغةِ العربيةِ إلا لتفيضَ دلالاتٍ تُحيطُ بالحفظِ والتربيةِ والرحمة. فهي من الفعل “رَعَى”، الذي يحملُ في ثناياه معنى الحمايةِ والاهتمامِ بشيءٍ ما كالغنمِ يرعاها الراعي. أما في اصطلاحِ الشرعِ، فقد تحوَّلت هذه الكلمةُ إلى ميثاقٍ مُقدَّسٍ يُجسِّدُ الحقوقَ والواجباتِ التي تُحيطُ بالطفلِ من كلِّ جانب: جسدًا وروحًا، عقلًا ووجدانًا.
فالرعايةُ هنا ليست ترفًا، بل هي التزامٌ بوصيةِ اللهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ (التحريم: 6). وكأنَّ الآيةَ تُذكِّرُ الوالدينِ بأنَّ حمايةَ الأبناءِ من النارِ تبدأُ بتربيتِهم على الإيمانِ، لا بتوفيرِ المأكلِ والمشربِ فحسب.


الفصل الثاني: الأسسُ التي ارتكزت عليها شريعةُ الإسلام في رعايةِ الطفولة

1. القرآنُ الكريمُ: دستورٌ للحقوقِ قبل الميلاد

لم ينتظرِ الإسلامُ حتى يبكي الطفلُ ليُقرَّ له بحقوقِه، بل شرعَها قبل أن يُخلَق. ففي قصةِ زكريا عليه السلام، نرى الدعاءَ يتقدَّمُ الولادةَ: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ (آل عمران: 38). وحين يُولدُ الطفلُ، تأتي التشريعاتُ كالسيلِ: من الحقِّ في النسبِ، إلى الرضاعةِ، إلى النفقةِ، حتى حقِّه في أن يُختارَ له اسمٌ لا يسخرُ منه الناسُ.

2. السنةُ النبويةُ: التطبيقُ العمليُّ للرحمة

كان النبيُّ ﷺ يُمازحُ الأطفالَ، يُقبِّلُهم، ويحملُهم على كتفيه وهو يُصلِّي. وفي فعلتِه هذه، لم يكنْ يلعبُ، بل كان يُعلِّمُ أمتهَ أن التربيةَ لا تكتملُ إلا بالحبِّ. فحديثُه: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا» (صحيح الترمذي)، يُجسِّدُ فلسفةً تربويةً ترفضُ التسلطَ، وتؤسسُ لعلاقةٍ قائمةٍ على الحنانِ والاحترام.


الفصل الثالث: الأركانُ الخمسةُ لرعايةِ الطفلِ في الإسلام (جدول تحليلي)

لعلَّ الإسلامَ قد سبقَ كلَّ المواثيقِ الدوليةِ حين جعلَ حقوقَ الطفلِ جزءًا من عقيدةِ المسلمِ. وهذه الأركانُ تُوضحُ ذلك:

الركنالتفصيلالدليل الشرعيالمغزى الحضاري
الحق في الحياةحرمة الإجهاض، وقتلِ البناتِ خوفًا من الفقر.﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ﴾ (الإسراء: 31)حمايةُ النسلِ البشريِّ من الانقراض.
الحق في الهويةإثباتُ النسبِ، وحظرُ التبني.حديث: «الولدُ للفراشِ» (صحيح البخاري).الحفاظُ على النسيجِ الاجتماعي.
الحق في التربيةتعليمُ الأخلاقِ، القرآنِ، والعلومِ النافعة.﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ﴾ (طه: 132).بناءُ جيلٍ واعٍ قادرٍ على العطاء.
الحق في الصحةالرضاعةُ الطبيعيةُ، والعلاجُ عند المرضِ.قول النبي ﷺ: «كفى بالمرء إثمًا أن يُضيِّعَ من يعول» (أبو داود).ضمانُ نموٍّ جسديٍّ وعقليٍّ سليم.
الحق في اللعبعدمُ كبتِ طفولتِه بالتكاليفِ فوق طاقتِه.حديث: «دَعْهُ يا عمرُ، فَإِنَّ الْمَوَاشِيَّ صِبْيَانٌ» (صحيح مسلم).احترامُ مراحلِ النموِّ النفسيِّ.

الفصل الرابع: دروسٌ من التاريخ.. كيف ربَّى السلفُ أطفالَهم؟

1. النبيُّ ﷺ: المُعلِّمُ الذي كان يُلاعبُ الصغارَ

يروي أنس بن مالكٍ أن النبيَّ ﷺ كان يمرُّ بالصبيانِ فيُسلِّمُ عليهم، ويجلسُ معهم كأنه أحدُهم. وفي مرةٍ، دخل غلامٌ يهوديٌّ عليه وهو مريضٌ، فعادهُ النبيُّ ودعاه إلى الإسلامِ، فأسلمَ. هنا نجدُ التربيةَ بالقدوةِ والحكمةِ، لا بالعنفِ أو الإكراهِ.

2. عمر بن الخطابِ: العدلُ يبدأُ من الطفولةِ

كان عمرُ رضي الله عنه يطوفُ بالأسواقِ ليلًا، ويسمعُ بكاءَ طفلٍ، فيسألُ أمَّه: “ألا تُرضعينه؟” فإذا قالت: “نفطمُه لنشغله بالصلاةِ”، يردُّ: “لا تعجليْه، فإنما يُكتبُ للصبيِّ صلاتُه إذا عقل”. لقد فهم أن التربيةَ تحتاجُ إلى صبرٍ، لا إلى تعجيلِ الفطرةِ.


الفصل الخامس: أسئلةٌ تبحثُ عن إجاباتٍ (حوار مع القارئ)

س: هل تُجيزُ الشريعةُ تأديبَ الطفلِ بالضربِ؟

  • الجوابُ: نعم، لكن بشروطٍ صارمةٍ. يقول النبيُّ ﷺ: «مُروا أولادَكم بالصلاةِ وهم أبناءُ سبعِ سنين، واضربوهم عليها وهم أبناءُ عشرٍ» (أبو داود). لكنَّ الضربَ هنا ليس تعذيبًا، بل رمزٌ للتأديبِ بعد استنفادِ كلِّ وسائلِ الترغيبِ. وقد حذَّر الفقهاءُ من إيذاءِ الطفلِ، حتى لو كان بتوبيخٍ لفظيٍّ.

س: كيف نربِّي أبناءَنا في زمنِ التكنولوجيا؟

  • الجوابُ: بالجمعِ بين الحكمةِ والمرونةِ. فكما علَّمنا الإسلامُ أن نأخذَ بالأسبابِ، يمكنُ استخدامُ التكنولوجيا كوسيلةٍ للتعليمِ، لكن مع غرسِ الوازعِ الدينيِّ الذي يحمي الطفلَ من مخاطرِها. كأن نعلِّمَهُ حديثَ: «إن اللهَ يحبُّ إذا عمل أحدُكم عملًا أن يتقنَهُ» (الطبراني)، ليكونَ إتقانُه للألعابِ الإلكترونيةِ تدريبًا على إتقانِ الحياةِ.

الفصل السادس: تحدياتُ العصرِ.. هل تُغيِّرُ الشريعةُ من مبادئِها؟

إنَّ التحدياتِ التي تواجهُ رعايةَ الأطفالِ اليومَ — من غزوِ الثقافاتِ إلى انهيارِ الأسرةِ — لا تعني أن الشريعةَ عاجزةٌ، بل تعني أننا نحتاجُ إلى فهمٍ أعمقَ لنصوصِها. فالإسلامُ لم يُحرِّمْ تبنيَ الأطفالِ، لكنه شرعَ “الكفالةَ” التي تحفظُ للطفلِ نسبَه وهويتَه. ولم يُهملْ حقوقَ الطفلِ ذي الاحتياجاتِ الخاصةِ، بل حضَّ على رعايتِه في حديثِ: «ارحموا من في الأرضِ يرحمْكم من في السماءِ» (الترمذي).


الخاتمة: الطفولةُ.. جسرُ الأمةِ إلى المستقبلِ

إنَّ رعايةَ الأطفالِ في الإسلامِ ليست فريضةً فرديةً، بل هي مشروعُ حضارةٍ. فكلُّ طفلٍ يُربَّى على الإيمانِ والأخلاقِ هو لبنةٌ في صرحِ أمةٍ لن تندثرَ. وكما قال ابنُ القيمِ: “من أهملَ تعليمَ ولدِه ما ينفعه، فقد أساءَ إليه إساءةً كبرى”. فلننظرْ إلى أطفالِنا ليسوا بأعينِنا فقط، بل بقلوبِ السلفِ الصالحِ الذين رأوا في كلِّ طفلٍ أملَ أمةٍ.


مراجعُ المقالِ:

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى