المصطلحات

مفهوم المعرفة: أصولها وأنواعها وأهميتها

إذا كانت الحضارات تُبنى بالحجارة، فإنَّما تُخلَّد بالمعرفة. تلك الكلمة التي تحمل في حروفها ألقَ الأسئلة الكبرى، وتجوبُ في معانيها شغفُ الإنسان بالكشف عن المجهول. هنا، في هذا المقال، سنسيرُ معًا على دروبِ “المعرفة” نقتفي أثرها اللغوي، ونستنطقُ فلسفتها، ونستلهمُ حكمتها من الشرق إلى الغرب، ومن الأزل إلى اليوم. فلتُضيء شمعةَ فضولك، وامشِ معي.


1. أصل الكلمة وتعريفها اللغوي والاصطلاحي

1.1 المعرفة في اللغة العربية: جذرٌ يغوص في الأعماق

لم تكن كلمة “المعرفة” مجردَ اصطلاحٍ عابر، بل هي ابنةُ البيئة العربية التي رأت في “العِرْفان” نورًا يُبدِّدُ الظلام. يقول ابن منظور في “لسان العرب”: “العِرْفَانُ: العِلْمُ بالشيء، وهو ضدُّ الجَهل”. فالجذر “ع ر ف” يحملُ في طياته معاني التمييز والإدراك، كأنَّما العارفُ هو من يميزُ الحجرَ من الجوهرة، والظنَّ من اليقين.

ولكنَّ العربيةَ لم تكتفِ بهذا، بل جعلت من “المعرفة” ابنةَ التجربة الحية، فـ “عَرَفَ الشيءَ” يعني خَبَرَه عن قرب، كمن يعرفُ طعمَ الرمان لأنَّه ذاقه، أو يعرفُ ألمَ الفراق لأنَّه عاشه. وهنا تكمنُ عبقريةُ اللغة: جعلتِ المعرفةَ حوارًا بين العقلِ والقلبِ، بين الفكرةِ والواقعِ.

1.2 المعرفة في الاصطلاح الفلسفي: سؤالٌ يطارِدُ الحكمة

إذا كان للغةِ جمالُها، فإنَّ للفلسفةِ عمقُها. فمنذ أن طرح أفلاطون سؤاله الشهير: “ما الحقيقة؟”، ظلَّتِ المعرفةُ لغزًا يُقلقُ الفلاسفة. هي عند أرسطو “إدراكُ الكليات بالبرهان”، وعند كانط “ثمرةُ تفاعلِ العقلِ مع التجربة”، أما برتراند رسل فيراها “نسيجًا من الاعتقادات المبرهنة”.

لكنَّ التحدي الأكبر كان في تمييز المعرفة عن مجرد الاعتقاد. فهل يكفي أن نعتقدَ شيئًا لنعرفَه؟ هنا تتدخَّلُ الفلسفةُ الحديثةُ لتقول: المعرفةُ هي “الاعتقاد الصادق المبرر” (Justified True Belief). لكن حتى هذا التعريفَ لم يسلمْ من النقد، فقد أظهرت “معضلة غيتييه” أنَّ التبريرَ قد يكونُ وهميًّا. وهكذا، تظلُّ المعرفةُ سؤالًا مفتوحًا، كالنهر الذي لا ينضبُ.


2. أنواع المعرفة: التصنيفات الفلسفية

2.1 المعرفة الشخصية: ذاكرةُ الجسد والروح

هي المعرفةُ التي تُكتسبُ بالعيشِ لا بالقراءة، كمن يعرفُ رائحةَ المطر لأنَّه شمَّها، أو يعرفُ وجعَ الخيانة لأنَّه ذاقَه. يقول الفيلسوف بول فييرابند: “بعضُ الحقائقِ لا تُدركُ إلا بالعَصا والكفِّ”. هذه المعرفةُ الذاتيةُ تُشبهُ بصمةَ الإصبع: فريدةٌ، لا تُقاسُ بالمنطقِ، لكنها تُغني الإنسانَ بحميميةِ التجربة.

مثالٌ أدبي: عندما كتبَ المتنبي:

وما انتفاعُ أخي الدنيا بناظرهِ إذا استَوَتْ عندهُ الأنوارُ والظُلَمُ
كان يُلمحُ إلى أنَّ المعرفةَ الحقيقيةَ تحتاجُ إلى عينٍ تميزُ النورَ من الظلام، لا إلى عينٍ ترى فقط.

2.2 المعرفة الإجرائية: حين تُصبحُ الأفكارُ حركةً

هل تعرفُ كيف تُقلبُ بيضةً في المقلاة؟ قد تشرحُ لي النظرياتِ كلَّها، لكن إن لم تمسكْ بالمقلاةِ بيدك، فمعرفتكَ ناقصةٌ. هذه هي “المعرفة الإجرائية”: مهارةٌ تتحولُ إلى عادةٍ في الأعصاب. الفيلسوف غيلبرت رايل سمَّاها “المعرفة بكيف”: معرفةُ السباحةِ ليستْ حفظَ قوانين الطفو، بل هي تحريكُ الذراعين في الماء.

جدولٌ توضيحي:

النوعالمصدرمثالٌ تاريخي
المعرفة الشخصيةالتجربة الذاتيةابن بطوطة يعرفُ آسيا بالمشي
المعرفة الإجرائيةالممارسة العمليةعباس بن فرناس يجربُ الطيران
المعرفة الافتراضيةالاستدلال العقليالخوارزمي يبتكرُ الجبر

2.3 المعرفة الافتراضية: حقائقُ تُلامسُ الأبديةَ

“إنَّ الأرضَ تدورُ حول الشمس”، هذه الجملةُ البسيطةُ تحوي معرفةً افتراضيةً راكمها البشرُ عبر قرونٍ من الملاحظةِ والاستدلالِ. هي معرفةٌ موضوعيةٌ، لا تعتمدُ على ذاتيةِ الفرد، بل على أدلةٍ يُمكنُ إثباتُها. لكنَّ الفيلسوفَ كارل بوبر يحذِّرُنا: “كلُّ معرفةٍ افتراضيةٍ قابلةٌ للدحض”، فالحقيقةُ اليومَ قد تصبحُ خرافةَ الغدِ.


3. المعرفة في الإسلام: رؤية شاملة

3.1 القرآنُ وكلمةُ “اقرأ”: نداءُ الخلود

عندما نزلتْ أولى آياتِ القرآنِ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ (العلق: 1)، كانتْ دعوةً لتأسيسِ حضارةٍ قائمةٍ على المعرفةِ. في الإسلامِ، المعرفةُ ليستْ ترفًا، بل هي جهادٌ نحوَ الحقيقةِ. يقول الغزالي في “إحياء علوم الدين”: “العلمُ نورٌ يُقذفُ في القلبِ، يَرى به العبدُ الحقَّ من الباطلِ”.

3.2 الفرقُ بين “العلم” و”المعرفة” في التصوُّر الإسلامي

إنْ كان “العلمُ” في الإسلامِ يشملُ علومَ الدينِ والدنيا، فإنَّ “المعرفةَ” تُلامسُ جوهرَ الإيمانِ. فالعارفُ هو من يصلُ إلى معرفةِ اللهِ عبرَ التأمُّلِ في الكونِ، كما يقول ابن عطاء الله السكندري: “مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ عَرَفَ رَبَّهُ”. وهنا تلتقي الفلسفةُ بالتصوُّفِ في رحلةِ البحثِ عن المطلقِ.


4. طرق اكتساب المعرفة: بين العقل والتجربة

4.1 المذهبُ العقليُّ: حين يُشرقُ العقلُ شمسًا

“أنا أفكرُ، إذن أنا موجود”، بهذه الكلمةِ وضع ديكارت حجرَ الأساسِ للمذهبِ العقليِّ، مؤمنًا أنَّ العقلَ هو المصدرُ الوحيدُ للمعرفةِ اليقينيةِ. فالحقائقُ الرياضيةُ مثلًا (2+2=4) لا تحتاجُ لتجربةٍ، بل هي مُتأصلةٌ في العقلِ. لكنَّ هيغل ذهبَ أبعدَ من ذلك، فرأى أنَّ المعرفةَ سُلَّمٌ تصعدُ من المحدودِ إلى المطلقِ.

4.2 المذهبُ التجريبيُّ: الحواسُ.. بواباتُ الواقعِ

“العقلُ صفحةٌ بيضاءُ”، بهذه العبارةِ هاجم جون لوك المذهبَ العقليَّ، معتبرًا أنَّ التجربةَ الحسيةَ هي الأصلُ. فأنت لا تعرفُ أنَّ النارَ تُحرقُ إلا إذا لمستها. حتى إيمانويل كانط، رغم دفاعه عن العقلِ، أكَّد أنَّ المعرفةَ تبدأُ بالتجربةِ لكنها لا تنتهي عندها.

مقارنةٌ أدبية:

  • العقليُّون كشاعرٍ يكتبُ قصيدةً من خيالهِ.
  • التجريبيُّون كرسَّامٍ يرسمُ لوحةً من واقعهِ.

4.3 المذهبُ البراجماتيُّ: المعرفةُ.. سلاحُ النجاحِ

“الحقيقةُ هي ما ينجحُ”، بهذا الشعارِ أسَّس تشارلز ساندرز بيرس المذهبَ البراجماتيَّ، معتبرًا أنَّ قيمةَ المعرفةِ تكمنُ في نتائجها العمليةِ. ففكرةٌ مثلُ “الذرةُ موجودةٌ” تُعتبرُ صحيحةً لأنها تُفسِّرُ الظواهرَ الطبيعيةَ وتُقدِّمُ تكنولوجيا مفيدةً. لكنَّ النقادَ يرون أنَّ هذا المذهبَ يُحوِّلُ الحقيقةَ إلى سلعةٍ استهلاكيةٍ.


5. الأسئلة الشائعة عن المعرفة

5.1 ما الفرقُ بين المعرفةِ والعلمِ؟

إنْ كان العلمُ قطارًا يسيرُ على سككِ المنهجِ التجريبيِّ، فإنَّ المعرفةَ هي المحطةُ التي تحتضنُ كلَّ القطاراتِ: الفلسفيةَ، الدينيةَ، والأدبيةَ. فالعلمُ جزءٌ من المعرفةِ، لكنَّ المعرفةَ أوسعُ وأشملُ.

5.2 كيف نظرَ العربُ القدماءُ إلى المعرفةِ؟

في كتابهِ “فصل المقال”، يُجيبُ ابن رشد على هذا السؤالِ بالقولِ: “الحكمةُ هي صاحبةُ الشريعةِ، والأختُ الرضيعةُ لها”. فالمعرفةُ عند العربِ كانتْ جسرًا بين الوحيِ والعقلِ، بين السماءِ والأرضِ.


خاتمة: المعرفةُ.. البحرُ الذي لا ساحلَ له

في النهاية، تبقى المعرفةُ بحرًا تُلقيه الريحُ بأمواجِ الأسئلةِ إلى شاطئِ الإجاباتِ، لكنَّ كلَّ موجةٍ تَكشفُ عن أسرارٍ جديدةٍ. هي رحلةٌ لا تنتهي، وحوارٌ بين الماضي والمستقبلِ. فاقرأْ، فكلُّ كتابٍ هو مرآةٌ ترى فيها نفسَكَ والعالمَ. وتذكَّرْ قولَ الجاحظ: “المعرفةُ مُلكٌ لا يُقاسُ بالذراعِ، ولا يُكالُ بالمِكْيالِ”.


مراجعُ المقال:

  1. ابن منظور، لسان العرب.
  2. أفلاطون، محاورة “ثياتيتوس”.
  3. القرآن الكريم.
  4. الغزالي، إحياء علوم الدين.
  5. Bertrand Russell, The Problems of Philosophy.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى