المصطلحات

مفهوم المجتمع: التشكُّل التاريخي ورحلة تطوره عبر الحضارات

إذا كان الإنسانُ كائنًا اجتماعيًّا بطبعه، كما قال أرسطو، فإن المجتمع هو المرآة التي تعكسُ سعيه الدؤوب نحو الوجود المُشْتَرَك. لكن كيف وُلِدَتْ هذه الكلمة من رحم اللغة؟ وكيف تحوَّلَ معناها من التجمُّع البدائي إلى شبكة العلاقات المعقَّدة التي نعرفها اليوم؟ هذا المقال ليس مجرد سردٍ تاريخي، بل هو رحلةٌ نغوص فيها إلى أعماق “مفهوم المجتمع”، نستنطقُ جذورَه اللغوية، ونستكشفُ تحولاته الفكرية، ونقفُ عند عتبات الحاضر لنفهمَ كيف يُشكِّلُنا المجتمعُ ونُشكِّلُه. ولكن ماذا لو كان المجتمع ليس مجرد تفاعل بين أفراد؟ ماذا لو كان الكائن الاجتماعي جزءًا من كيان أكبر؟


الفصل الأول: أصل الكلمة.. حين يكون اللفظُ بوابةَ المعنى

اللغة: جَمَعَ، فاجتمعوا

كلمة “مُجْتَمَع” العربية تُجذِّرُنا في الفعل “جَمَعَ”، الذي يحملُ في طياته معاني التآلف والوئام. فالجَمْعُ ليس مجرد اقتراب الأجساد، بل هو التقاءُ الإرادات حول غايةٍ واحدة، كما يذكر ابن منظور في “لسان العرب”: «المجتمع: ما اجتمع من الناس على أمرٍ». وهنا تكمنُ المفارقة: فالكلمة التي تعني الاجتماع تحملُ في ذاتها بذورَ الاختلاف، لأن كلَّ “أمر” يجتمع عليه الناسُ قد يكونُ دينًا، أو ثورةً، أو حتى حربًا!

الاصطلاح: من القبيلة إلى القرية العالمية

أما في العصر الحديث، فقد اتسعَ مفهوم المجتمع ليشملَ كلَّ مجموعة بشرية تربطها روابطُ مكانية أو ثقافية أو اقتصادية، حتى لو امتدت عبر القارات. فاليابانيون الذين يعيشون في البرازيل يُشكِّلون “مجتمعًا” بثقافتهم المميزة، كما أن مستخدمي تويتر حول العالم يُكوِّنون مجتمعًا افتراضيًّا تنتظمه قواعدُ غير مكتوبة. وهنا يظهر السؤال: أليس المجتمعُ، في جوهره، هو تلك المساحةُ التي نتفق فيها على كيف نختلف؟ وكيف تؤثر العولمة الرقمية في تشكيل هوية المجتمعات المعاصرة؟


الفصل الثاني: التاريخ.. رحلة المجتمع من الكهف إلى الفضاء

العصور القديمة: حين كانت الدماءُ تُجمع الناس

قبل آلاف السنين، لم يكن الإنسانُ يحتاج إلى أكثر من صلة القرابة كي يعرفَ حدودَ مجتمعه. فالقبيلةُ كانت عائلةً ممتدة، يحكمها الأقوى جسدًا، أو الأكثر حكمةً. لكن مع ظهور الزراعة في بلاد الرافدين (حوالي 8000 ق.م)، بدأ المجتمعُ يتحوَّلُ من جماعةٍ متنقلة إلى كيانٍ مستقرٍّ تُبنى فيه المعابدُ، وتُرسَمُ القوانين. فالحضارة السومرية، مثلاً، عرفت أول تقسيم طبقي بين الكهنة والمحاربين والعبيد، وكأن المجتمعَ بدأ يُدرك أن قوته تكمنُ في تمايز أجزائه.

ابن خلدون: العُصْبةُ.. ذلك السرُّ الخفي

لم يأتِ العلامةُ عبد الرحمن بن خلدون (1332–1406م) بنظرية “العصبية” من فراغ، بل شاهدَ بسقوط دول المغرب والأندلس كيف أن المجتمعَ يشبهُ الكائنَ الحي: يولدُ قويًّا بالتعاطف القبلي، ثم يهرمُ حين يغرق أهله في بحر الترف والانحلال. يقول في مقدمته: «إنَّ الدولةَ لها أعمارٌ طبيعيةٌ كالأفراد». فالمجتمعُ، عنده، ليس كتلةً جامدة، بل هو حلقةٌ متواصلةٌ من الظهور والزوال، تحكمها قوانينُ اجتماعيةٌ صارمة كقوانين الفيزياء!

الثورة الصناعية: حين صارت الآلةُ عضوةً في المجتمع

مع اختراع الآلة البخارية (1712م)، لم يعد المجتمعُ الإنجليزي يعرفُ الفلاحين التقليديين، بل ولدتْ طبقةٌ جديدةٌ من العمّال الذين يبيعون وقتهم كما يبيعون سلعةً. هنا بدأ السؤالُ الملحّ: هل المجتمعُ نظامٌ لتنظيم المصالح، أم أنه ساحةُ صراعٍ بين من يملكون ومن لا يملكون؟ كان كارل ماركس (1818–1883) يرى أن التاريخَ كله هو قصةُ هذا الصراع، بينما اعتبر إميل دوركايم (1858–1917) أن التضامنَ الاجتماعيَّ هو الذي يحفظُ توازنَ المجتمع، سواءٌ أكان تضامنًا “ميكانيكيًّا” كما في القرى، أو “عضوويًّا” كما في المدن.


الفصل الثالث: المجتمع في عيون الأديان والفلسفات

الإسلام: الأمةُ الواحدةُ والعدلُ الاجتماعي

لم يكتفِ القرآنُ بتعريف المجتمع بأنه «أمةٌ واحدة» (البقرة: 213)، بل جعلَ العدلَ والرحمةَ أساسًا لتماسكه. ففي الحديث النبوي: «مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتَرَاحُمِهم كَمَثَلِ الجَسَدِ الواحد» (صحيح مسلم). لكن هذا لا يعني أن المجتمع الإسلامي كان يُلغى فيه الصراعُ، بل إن التاريخ يخبرنا أن الخلافات السياسية بين الصحابة، كمعركة الجمل (36 هـ)، كانت تعكسُ صورةً لمجتمعٍ حيويٍّ يُجسِّدُ مبدأ الشورى حتى في لحظات انقسامه.

الفلسفة الغربية: بين العقد الاجتماعي والفردانية

بينما كان جان جاك روسو (1712–1778) يُفلسفُ فكرة “العقد الاجتماعي” كأساسٍ للمجتمع، كان نيتشه (1844–1900) يرى أن المجتمعَ الحديثَ يُنتجُ “قطعانًا” بشريةً تفتقرُ إلى الإرادة الفردية. هذه الثنائية تظهرُ اليوم في جدلية الهوية: هل المجتمعُ يُعَيِّنُ هويتنا أم نصنعها نحن؟ الصينُ، مثلًا، تتبنى نموذجًا جماعيًّا في “المجتمع المتناغم”، بينما ترفع أمريكا شعار الفردانية. فالمجتمعُ، إذن، قد يكونُ سجنًا أو ملاذًا، حسب الزاوية التي ننظر منها.


الفصل الرابع: أنواع المجتمعات.. من البداوة إلى الفضاء الرقمي

لعلَّ أبلغَ طريقة لفهم المجتمع هي النظر إليه من خلال تنوع أشكاله. هذا الجدول يلخصُ التحولات الكبرى:

النوعالزمنالسماتمثال بارزالتحدي الرئيس
البدويما قبل التاريخالترحال، القبلية، الصيدقبائل البدو في الصحراءندرة الموارد
الزراعي8000 ق.مالاستقرار، الطبقية، الحرف اليدويةمصر الفرعونيةالصراع على الأرض
الصناعيالقرن 18التصنيع، الرأسمالية، التحضرمانشستر إنجلتراالاستغلال الطبقي
المعرفيالقرن 21التكنولوجيا، العولمة، الاقتصاد الرقميوادي السيليكونالفجوة الرقمية

المجتمعات الافتراضية: حين يصبح الوهمُ واقعًا

في عام 2023، وصل عدد مستخدمي فيسبوك إلى 3 مليارات إنسان، أي ما يعادل ثلث سكان الأرض! هذا يعني أن “المجتمع” لم يعد حبيسَ الجغرافيا، بل صارَ كيانًا سائلًا يعبرُ الحدود. لكن هل هذه المجتمعاتُ الرقمية تُعمِّقُ العزلةَ أم تُذيبها؟ دراسة أجرتها جامعة هارفارد (2022) وجدت أن 60% من المراهقين يشعرون بالوحدة رغم وجود آلاف الأصدقاء الافتراضيين. هنا نرى أن المجتمعَ، بأشكاله الجديدة، يحملُ تناقضاتِ عصرنا: اتصالٌ بلا تواصل، معرفةٌ بلا حكمة.


الفصل الخامس: أسئلة تبحث عن أجوبة

س: ما الفرق بين المجتمع والجماعة؟

الجواب: الجماعةُ كالقطرةِ، والمجتمعُ كالبحر. الأولى تتشكل حول هدفٍ محدود (كجماعة الصلاة)، أما المجتمعُ فيحتضنُ تناقضاتٍ لا تُحصى، مثلما يحتضنُ البحرُ المياهَ العذبةَ والمالحة.

س: كيف نظر اليونان للمجتمع؟

الجواب: أفلاطون (427–347 ق.م) تخيل المجتمعَ المثاليَّ في “الجمهورية” كسفينةٍ يقودها الفلاسفة، بينما أرسطو رأى أن الإنسانَ “حيوان سياسي” بالضرورة. لكن كليهما اتفقا أن المجتمعَ ليس اختيارًا، بل قدرًا.


خاتمة: المجتمع.. ذلك اللغز الذي نعيشه

في الختام، المجتمعُ ليس لفظًا ننطق به عبثًا، بل هو الخيوطُ التي تنسجُ كياننا المشترك. من جماعاتٍ تبحث عن موارد البقاء، إلى حضاراتٍ تتحدى حدود الزمان والمكان، ظلَّ المجتمعُ يُعيدُ صياغةَ ماهيته، حاملاً في كلِّ حقبةٍ بذورَ أفوله وبزوغه. فهل نحن ثمرةُ هذا الكيان الاجتماعي، أم هو انعكاسٌ لتصوراتنا الجمعية؟ الحقيقةُ تكمنُ في تلك العلاقة التبادلية؛ نُسهم في تشكيله بقدر ما يُشكِّلُ وجودنا.


مراجع المقال:

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى