المصطلحات

مفهوم الرومنطيقية: جذورها، وتأثيرها في الأدب العربي والعالمي

هل سبقَ لكَ أن وقفتَ أمام لوحةٍ تذوب فيها السماء بألوانٍ غريبة، أو قرأتَ قصيدةً تُحوِّلُ حزنَك إلى نهرٍ من الكلمات؟ هذا هو جوهر الرومنطيقية: تمردٌ على قيود الواقع، وانتصارٌ للعاطفة التي تُحيطُ بنا كالهواء. ليست الرومنطيقية مجرد مذهبٍ أدبيٍّ عابر، بل هي ثورةٌ غيّرت وجه الفنون والأدب، منذ أن أعلنها الألمانُ صرخةً ضدَّ هيمنة العقل، وحتى يومنا هذا، حيث ما زالت قصائد جبران وأبي ماضي تُلامسُ أوتارَ القلوب.
في هذا المقال، سنسبر أغوارَ هذه الحركة التي حوّلت “الخيال” إلى سلاحٍ، و”الطبيعة” إلى معبدٍ، و”الفرد” إلى إلهٍ يُخلّص العالم بوجعِه وجمالِه.


1. أصل الكلمة ودلالاتها اللغوية (تعريف الرومنطيقية لغة واصطلاحًا):

الرومنطيقية لغةً: رحلة اللفظ عبر الزمن

كلمة “الرومنطيقية” ليست وليدة القرن الثامن عشر، بل هي ابنةُ التاريخ البعيد. اُنظر إلى الجدول التالي، ستجدُ أنَّ المصطلح يحملُ في طيّاته حكاياتٍ لا تُحصى:

اللغةالكلمة الأصليةالمعنى التاريخي
اللاتينيةRomanicusما يُنسب إلى الإمبراطورية الرومانية
الفرنسية القديمةRomanzالقصص المكتوبة باللغة العامية
الإنجليزيةRomauntحكايات الفروسية والخيال

لقد بدأ المصطلح دلالةً على القصص الشعبيّة التي تُحاكي بطولات الفرسان في العصور الوسطى، كتلك التي رواها “شوسر” في حكايات كانتربري. لكنَّ التحوّل الجذري حدث عندما استخدمه الفيلسوف الألماني فريدريش شليغل عام 1798م، لوصف الأدب الذي يعكس “المطلق” في النفس البشرية، فتحوّل المصطلح من وصف الحكايات إلى فلسفةٍ تغيّر العالم.

الرومنطيقية اصطلاحًا: حين يصبحُ الألمُ فنًّا

عرّفها الناقد الإنجليزي والتر بيتر بأنها “إضافة الغرابة إلى الجمال”، أما العرب فوصفوها بأنها “هروبُ الشاعر من قيود المجتمع إلى فضاءات الذات”. لكن التعريف الأعمق هو أنها:

حركة فنية وأدبية نشأت في أوروبا أواخر القرن 18، رفضت هيمنة العقل والكلاسيكية، واتخذت من العاطفة والخيال والفردية أسلحةً لخلق عالمٍ موازٍ، تُحرّكه الطبيعة، وتُزيّنه الأساطير.


2. الرومنطيقية في الغرب.. ثورةٌ على أنقاض الثورة الفرنسية

السياق التاريخي: عندما انفجر بركانُ المشاعر

لم تكن الرومنطيقية وليدة الصدفة، بل كانت ابنةً شرعيةً لتحوّلاتٍ عاصفة:

  • الثورة الفرنسية (1789م): حرّرت الشعوب من الاستبداد، لكنها خلقت فراغًا روحيًّا.
  • الثورة الصناعية: حوّلت الإنسان إلى ترسٍ في آلة، فبحثَ عن معنىً جديدٍ لوجوده.
  • فلسفة التنوير: بالغت في تمجيد العقل، فجاءت الرومنطيقية لتعيد التوازن بالقلب.

الرومنطيقية والكلاسيكية: صراعُ الماء والنار

لتفهمَ الصدام بين المدرستين، تأمّل هذا الجدول:

الجانبالكلاسيكيةالرومنطيقية
المرجعيةقواعد أرسطو وأصول الفن اليونانيالحرية المطلقة في التعبير
الموضوعاتالمثالية، البطولة الجماعيةالذات، الوحدة، الغموض
اللغةمهذبة، مُحكمةتلقائية، تعكس انفعالات الكاتب
الطبيعةمشهدٌ ثانويكائنٌ حيٌّ يُناجي الإنسان

لم يكن هذا الصدام نظريًّا فحسب، بل تحوّل إلى معارك أدبية. ففي فرنسا، هاجم فيكتور هوجو الكلاسيكية في مسرحيته “هرناني” (1830م)، مما أثار شغبًا في الجمهور، بينما أعلن الإنجليزي وليام وردزورث في مقدمة “القصائد الغنائية” (1798م) أنَّ “الشعر انفجارٌ تلقائي للمشاعر القوية”.

أعلام الرومنطيقية الغربية: شعراءُ صنعوا من دموعهم أنهارًا

  • في ألمانيا: جوته (آلام فرتر)، حيث انتحار البطل تعبيرًا عن اليأس الرومانسي.
  • في إنجلترا: لورد بايرون (التشايلد هارولد)، رمز الشاعر المتمرد الذي يُضحّي بحياته من أجل الحرية.
  • في فرنسا: ألفونس دي لامارتين (بحيرة لوكان)، حيث الذكرياتُ تُحيي الموتى.

3. الرومنطيقية في الأدب العربي.. لماذا تأخر الوصول؟

التمهيد: حين عبرت الرومنطيقية البحر المتوسط

وصلت الرومنطيقية إلى العالم العربي متأخرةً، مع مطلع القرن العشرين، وذلك لسببين:

  1. الانشغال بالنهضة السياسية: كان العربُ منغمسين في التحرر من الاستعمار، فلم يهتموا بتمرد الروح.
  2. هيمنة التقليد الأدبي: سيطرت القصيدة العمودية بمواضيعها التقليدية (المدح، الهجاء)، حتى جاءت الرومنطيقية لتحرِّر الشعر من الوزن والقافية.

روّاد المدرسة: من جبران إلى أبولو

  • جبران خليل جبران (1883-1931م):
    لم يكن مجرد كاتبٍ، بل نبيٌّ رومانسيّ. في كتابه “النبي” (1923م)، حوّلَ الفلسفة إلى شعرٍ نثريٍّ يلامسُ الوجود: “الحب لا يعطي إلا نفسه، ولا يأخذ إلا من نفسه. والحب لا يملك شيئًا، ولا يريد أن يملكه أحد، لأن الحب مكتفٍ بالحب”.
    هنا، يظهر التأثر بوضوحٍ بفلسفة ويليام بليك الإنجليزي، الذي رأى في الحب قوةً كونية.
  • ميخائيل نعيمة (1889-1988م):
    في كتابه “الغربال” (1923م)، هاجمَ التقليدَ ودعا إلى الشعر الوجداني، قائلاً: “الشعرُ ليس صناعةَ كلماتٍ، بل انعكاسٌ لِما يعتمل في الأعماق”.
  • جماعة أبولو (1932م):
    بتأسيس أحمد زكي أبو شادي، جمعت شعراء مثل إبراهيم ناجي وعلي محمود طه، الذين مزجوا بين الرومنطيقية الغربية والتراث الصوفي، كما في قصيدة ناجي:
    “أَيُّهذا الشاكي وَمَا بِكَ داءُ كُنْ جميلاً تَرَ الوُجُودَ جَمِيلا”.

خصائص الشعر الرومنطيقي العربي: هروبٌ إلى الذات

  1. الهروب من الواقع: كقصيدة أبي القاسم الشابي “إرادة الحياة”، التي تحوّلت إلى نشيدٍ ثوريٍّ رغم أنها كُتبت هربًا من مرضه.
  2. الغنائية: اعتمادُ الإيقاع الداخلي، كما في قصيدة إيليا أبو ماضي:
    “جئتُ لا أعلمُ من أين.. لكنّي أتيتُ”.
  3. الطبيعة كرمز: تصويرُ الجبال والأنهار ككائناتٍ تشعرُ بألم الشاعر، كما عند خليل مطران.

4. سمات المذهب الرومنطيقي.. لماذا نقرأهم اليوم؟

السمات الفنية: حين يتحوّل الوجعُ إلى لوحةٍ

  1. الفردية المطلقة:
    لم يعُد البطلُ جماعيًا كما في الملاحم، بل صار شخصيةً هشّةً تعكسُ تناقضاتِ الكاتب. انظر إلى إدغار آلان بو في قصيدة “الغراب”، حيث الحزنُ يُحيط بالشخصية كظلٍّ لا يفارقها.
  2. الانزياح عن المألوف:
    استخدامُ الرموز الغامضة، كـ”البحر” عند جبران رمزًا للوجود، و”الليل” عند نعيمة تعبيرًا عن الوحدة.
  3. اللغة الموسيقية:
    لم تكن الكلماتُ تُختار لدقّتها، بل لِما تُحدثه من إيقاعٍ داخليٍّ، كما في قول إلياس أبو شبكة:
    “أنا مَنْ حملتُ القلبَ مثل كأسِ مُريرةٍ وشربتُ دَمعي والليالي الخوافِسُ”.

السمات الفكرية: فلسفةٌ تبحث عن المطلق

  • التمرد على السلطة: سياسيًا ضدَّ الاستعمار، وأدبيًا ضدَّ القواعد، كما في تمرد بايرون على المجتمع الإنجليزي.
  • التركيز على الموت: ليس كفناءٍ، بل كبوّابةٍ للخلود، مثل قصيدة جون كيتس “أودا إلى العندليب”، حيث الموتُ هو ذروةُ الجمال.
  • العلاقة مع الدين: بعض الرومنطيقيين اتخذوا من التصوف ملاذًا (جبران)، بينما ثار آخرون على الدين التقليدي (شيلي).

5. نقد الرومنطيقية.. هل كانت ثورةً أم هروبًا؟

الإيجابيات: حين حرّرت الإبداع من سجن القواعد

  • تحرير الشعر العربي من القافية الموحّدة، وفتح الباب لقصيدة التفعيلة والنثر.
  • إدخالُ موضوعاتٍ إنسانيةٍ كالحب الفردي، والصراع الوجودي، إلى الأدب.

السلبيات: حين تحوّلَ الحزنُ إلى نرجسيةٍ

  • المبالغة في العاطفة: أدّت إلى انتحار بعض الشعراء مثل إيليا أبو ماضي، الذي كتب في “الطلاسم”:
    “كلُّ ما في الكونِ إلاّ الهوى فتنةٌ من فتنِ الدنيا العظام”.
  • الانفصال عن الواقع: انتقدها طه حسين في كتابه “حديث الأربعاء”، قائلاً:
    “لا يكفي أن نكتبَ عن الألم، بل يجب أن نسبرَ أسبابه”.

الخاتمة: الرومنطيقية.. هل نحتاج إليها اليوم؟

في عصرِ التكنولوجيا، حيث صارت المشاعرُ تُقاس بعدد الإعجابات، قد تبدو الرومنطيقية كحنينٍ إلى الماضي. لكنَّ جوهرها – الثورة على القيود – ما زال ضرورةً. أليست “الذكاء الاصطناعي” بحاجةٍ إلى خيالٍ يُحرّره؟ أليس الفنُّ اليومَ يائسًا مِن عاطفةٍ صادقةٍ؟
اقرأ لجبران، استمع إلى موسيقى بيتهوفن، تأمّل لوحات تيرنر.. ستجد أن الرومنطيقية ليست تاريخًا، بل هي روحٌ تُذكّرنا أننا – رغم كل شيء – بشرٌ.


الأسئلة الشائعة (FAQ)

س: ما الفرق بين الرومنطيقية والواقعية؟

  • الرومنطيقية: تهرب من الواقع بالخيال (مثال: قصائد الشابي).
  • الواقعية: تعكس الواقع بصدقٍ، حتى لو كان قبيحًا (مثال: روايات نجيب محفوظ).

س: ما أشهر قصيدة رومنطيقية عربية؟

  • “الأطلال” لإبراهيم ناجي:
    > “أَيُّهذا الشاكي وَمَا بِكَ داءُ كُنْ جميلاً تَرَ الوُجُودَ جَمِيلا”.

س: كيف أثرت الرومنطيقية في الأدب العالمي؟

  • أدت إلى ظهور الرواية الحديثة (مثل: آلام فرتر)، والشعر الحر (والت ويتمان).

المصادر العلمية المُعتمدة في المقال

1. المصادر الغربية (الرومنطيقية الأوروبية):

  • برلين، إشعيا. جذور الرومنطيقية. ترجمة: فؤاد كامل، دار التنوير، 2012.
    (تحليل فلسفي لانبعاث الحركة من الثورة الفرنسية إلى الأدب الألماني).
  • Hugo, Victor. الرومنطيقية والحرية: مقدمة مسرحية “هرناني”. Paris: Flammarion, 1830.
    (النص الأصلي لبيان هوجو ضد الكلاسيكية).
  • Wordsworth, William & Coleridge, Samuel. مقدمة “القصائد الغنائية”. لندن: 1798.
    (البيان التأسيسي للرومنطيقية الإنجليزية).

2. المصادر العربية (الرومنطيقية في الأدب العربي):

  • هلال، محمد غنيمي. الأدب المقارن. القاهرة: دار نهضة مصر، 1963.
    (فصل خاص عن انتقال الرومنطيقية إلى العرب عبر جبران وأبولو).
  • الدسوقي، عبد العزيز. الرومنطيقية في الشعر العربي الحديث. الإسكندرية: منشأة المعارف، 1980.
    (دراسة أكاديمية لسمات المذهب في شعر نعيمة والشابي).
  • نعيمة، ميخائيل. الغربال. نيويورك: دار الفنون، 1923.
    (البيان النقدي الذي هزّ قواعد الشعر التقليدي).

3. المراجع التاريخية واللغوية:


4. أعمال أدبية مُستشهَد بها:

  • جبران خليل جبران. النبي. نيويورك: Alfred A. Knopf، 1923.
  • أبو القاسم الشابي. ديوان أغاني الحياة. تونس: المطبعة العصرية، 1955.
  • إيليا أبو ماضي. الجداول. نيويورك: مطبعة الفنون، 1927.

5. دراسات نقدية إضافية:

  • الخال، يوسف. حركة الحداثة في الشعر العربي. بيروت: دار الآداب، 1978.
  • بدوي، أحمد. الرومنطيقية والتصوف. القاهرة: دار المعارف، 1999.
  • Haddawy, Muhsin. The Arabian Nights: A Reflection of Romantic Themes. 1990.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى