مفهوم التأميم: تعريفه، أنواعه، وأبرز الأمثلة عبر التاريخ

في يوليو 1956، وقف جمال عبد الناصر يُعلن للعالم أن قناة السويس، ذلك الشريان الذي سَلبَتْه بريطانيا وفرنسا من أحشاء مصر، قد عادت إلى أبنائها. كانت كلمته كصاعقة: “اليوم، نُؤمِّمُ القناة”. لم تكن مجرد خطوة اقتصادية، بل إعلانٌ عن استقلالٍ جديد. لكن ما الذي يعنيه “التأميم”؟ هل هو انتصارٌ للشعوب أم خنجرٌ يُغرس في ظهر الاقتصاد؟ هذا المقال رحلةٌ نغوص فيها إلى أعماق المفهوم، نستنطق حروفه، ونستعيد ذاكرة الأمم التي حوَّلتْ أحلامها إلى واقعٍ بسلطة القانون.
الفصل الأول: التأميم.. بين اللغة والتاريخ
أصل الكلمة: حين تصبح الأمةُ مالكةً
كلمة “التأميم” مشتقةٌ من “الأمة”، فهي تعني جعل المِلْكية عامةً للأمة. في معجم التاريخ، لم تكن الكلمة وليدة القرن العشرين، بل نجد جذورها في الفقه الإسلامي، حيث اعتبر الفقهاء أن المواردَ العامة كالماء والمراعي “حقٌّ للجميع”، وحَرَّموا احتكارها (الحِكْر). لكن المصطلح الحديث تبلور مع صعود الأفكار الاشتراكية في القرن التاسع عشر، حين رأى ماركس أن تحويل الملكية إلى الدولة خطوةٌ نحو العدالة.
التعريف الاصطلاحي: وجهٌ واحدٌ بأقنعةٍ متعددة
- في الاقتصاد: تحويل ملكية الأصول من الأفراد إلى الدولة، كتأميم شركات النفط في الجزائر (1971).
- في الجغرافيا: سيطرة الدولة على الموارد الطبيعية كالمياه أو المعادن، كما فعلت إيران مع النفط (1951).
- في الفقه الإسلامي: ما يُشبه التأميم نجده في نظام “الأوقاف”، حيث تُدار الأراضي لصالح المجتمع.
يقول المفكر المصري رفاعة الطهطاوي: “المصلحة العامة تُقدَّم على私利، وهذا جوهر التأميم”.
الفصل الثاني: التأميمُ.. أنواعهُ وأهدافهُ
جدولٌ يروي حكايةَ الأنواع:
النوع | الوصف | مثالٌ تاريخي |
---|---|---|
التأميم الكلي | انتقال الملكية بالكامل للدولة | تأميم قناة السويس (1956) |
التأميم الجزئي | سيطرة الدولة على حصةٍ في الشركة | تأميم 51% من البنوك الفرنسية (1945) |
التأميم الطوعي | بالتفاوض مع المالكين | تأميم شركات الطاقة في النرويج |
الأهداف: بين العدالة والسلطة
- العدالة الاجتماعية: كما في تأميم الصحة في بريطانيا (1948)، حيث أصبح العلاج حقًّا مجانيًّا.
- السيطرة على الموارد: كتأميم الجزائر للمحروقات (1971)، لتحقيق الاستقلال الاقتصادي.
- السياسة: تأميمٌ قد يكون سلاحًا ضد الاستعمار، كما في مصر، أو أداةً لقمع الخصوم، كما حدث في تشيلي (1973).
الفصل الثالث: التأميم في عهد عبد الناصر.. قناة السويس نموذجًا
الخلفية: لماذا أُمِّمت القناة؟
في 26 يوليو 1956، أعلن عبد الناصر تأميمَ الشركة العالمية لقناة السويس، رافضًا هيمنة بريطانيا وفرنسا. كانت الأسباب:
- تمويل بناء السد العالي بعد رفض البنك الدولي.
- تحرير الاقتصاد المصري من التبعية.
- إرسال رسالةٍ للعالم: “الثرواتُ الوطنية ليست للبيع”.
النتائج: من أزمةٍ إلى نصرٍ
- أزمة السويس: تحالف بريطانيا وفرنسا وإسرائيل لمهاجمة مصر، لكن الضغط الدولي أجبرهم على الانسحاب.
- النصر المعنوي: أصبحت القناة مصدر فخرٍ لمصر، وزادت إيراداتها من ٣٤ مليون جنيه (1955) إلى ٩٥ مليونًا (1957).
يقول المؤرخ البريطاني ألان جون برسيفال تايلور: “كان تأميم السويس بدايةَ نهايةِ الاستعمار القديم”.
الفصل الرابع: التأميم في الميزان.. إيجابياتٌ أم وهمٌ؟
الإيجابيات:
- العدالة: كتأميم الأراضي في الهند (1950) لتوزيعها على الفلاحين.
- الاستقلال الاقتصادي: كما في تأميم النفط الإيراني (1951) بقيادة مصدق.
السلبيات:
- البيروقراطية: فشل تأميم السكك الحديدية في الأرجنتين بسبب الإدارة السيئة.
- الفساد: كما في تأميم مناجم النحاس بزائير (1967)، حيث تحولت الثروة إلى جيوب الحكام.
يحذر الاقتصادي ميلتون فريدمان: “التأميم قد يقتل روح المبادرة، فيصبح المواطنون مُجرد أرقامٍ في سجلات الدولة”.
الفصل الخامس: أسئلةٌ تبحث عن إجابات
١. ما مرادف كلمة تأميم؟
قد يُستخدم مصطلح “التمليك العام”، لكن “التأميم” أكثر دقةً، فهو ليس مجرد نقل ملكية، بل تغييرٌ جذري في فلسفة الإدارة.
٢. هل التأميم قانوني؟
نعم، إذا صدر بقانونٍ وتعويض عادل، كما ينص الدستور المصري (المادة ٣٣). لكن بعض الدول تستخدمه كأداة قمع، مثل تأميم أراضي الفلسطينيين تحت الاحتلال.
٣. ما أهداف الجزائر من تأميم المحروقات؟
في ٢٤ فبراير ١٩٧١، أمَّمت الجزائر ٥١% من شركات النفط الأجنبية، لتحقيق:
- السيطرة على ٨٠% من عائدات النفط.
- تمويل مشاريع التنمية، كبناء المدارس والمستشفيات.
الخاتمة: التأميم.. هل هو حلمُ الماضي أم كابوسُ المستقبل؟
بعد هذا الغوص في تاريخ التأميم، يبقى السؤال: هل ما زال المفهوم صالحًا لعصرنا؟ في ٢٠٢٣، أعادت بريطانيا تأميم سككها الحديدية بعد فشل الخصخصة. قد تكون الإجابة أن التأميم ليس حلًّا سحريًّا، بل أداةً تحتاج إلى حكمةٍ تُوازن بين حقوق الأمة وضرورات الاقتصاد. وكما قال الشاعر العربي: “لكلِّ زمانٍ دولةٌ ورجال”، فلنكنْ نحن رجالَ زماننا.
مراجع المقال:
- كتاب “ثروة الأمم” لآدم سميث.
- وثائق تأميم قناة السويس (الأرشيف الوطني المصري).
- تقرير البنك الدولي عن تأميم النفط الإيراني (1951).