مفهوم الاستعمار: جذوره التاريخية وآثاره الحديثة

كيف لَكَلِمَةٍ تَعني في أصلها اللغوي “التعمير” و”الإصلاح” أن تتحول إلى رمزٍ للقهر والاستغلال؟ سؤال يَطْرَحُ نفسَه بقوة حين نُمعن النظر في تَشعُّبات مصطلح “الاستعمار”، ذلك المفهوم الذي ارتبط بأسوأ صفحات التاريخ الإنساني، حيثُ تَلبَسُ القوةُ ثوب الحضارة، وتَتخفى المطامعُ الاقتصادية خلف شعارات التنوير. في هذا المقال، سنسبر أغوار هذا المفهوم من جذوره اللغوية إلى تَجلياته الحديثة، مُستعينين بشواهد التاريخ وأصوات المفكرين، لِنُجيبَ عن سؤال جوهري: كيفَ صاغَ الاستعمارُ عالمنا اليوم؟
الأصل اللغوي والاصطلاحي: بين التعمير والاستغلال
لو عُدنا إلى المعاجم العربية القديمة، لَوَجَدنا أنَّ كلمة “الاستعمار” تَنحدرُ من الجذر “عَمَرَ”، الذي يَحمِلُ في ثناياه معاني العمارة والإصلاح. ففي “لسان العرب”، يُعرَّف الاستعمار بأنه “طلبُ عمران الأرض”، وكأنَّ المُستعمِرَ يُقدمُ على فعلٍ نبيل! لكنَّ التاريخَ يُخبرنا بقصةٍ أخرى. فمع انطلاق الحملات الأوروبية في القرون الحديثة، انقلبَ المعنى رأسًا على عقب، ليُصبحَ الاستعمارُ وَصْفًا لآليةٍ مُمنهجة لاستنزاف ثروات الشعوب، وإخضاعها ثقافيًّا وسياسيًّا.
هنا يَبرزُ التناقضُ الصارخ بين الدلالة اللغوية والواقع التاريخي. ففي كتابه “الثقافة والإمبريالية“، يَصفُ إدوارد سعيد الاستعمارَ بأنه “آلةٌ ثقافيةٌ تَختلقُ تَفوقًا مزعومًا لتُبررَ الهيمنة”، مُشيرًا إلى أنَّ المُستعمِرَ لَم يَكنْ يَبحثُ عن تعمير الأرض، بل عن تدمير الهُوية.
أنواع الاستعمار: من التوسع القديم إلى الهيمنة الحديثة
1. الاستعمار القديم: جذورٌ في عمق التاريخ
قبلَ أن تَظهرَ الإمبراطوريات الأوروبية، مارَسَ الفينيقيون والرومان أشكالًا بدائيةً للاستعمار. فالفينيقيون، سادة البحر الأبيض المتوسط، أقاموا مُستعمراتٍ مثل قرطاج (في تونس الحالية) كمراكز تجارية، لكنَّها تحولت لاحقًا إلى قواعد لفرض السيطرة. أما الرومان، فحين غزوا مصر عام 30 ق.م، استخرجوا ثلثَي إنتاجها من القمح ليطعموا به شعب روما، بينما عانى المصريون من الجوع. هنا نرى البذرة الأولى لفكرة “المركز والمستعمرة”.
2. الاستعمار التقليدي: حين تحولت الشمس إلى إمبراطورية لا تغيب
مع اكتشاف الأمريكتين عام 1492، دخلَ الاستعمارُ مرحلةً دموية. فالإسبان، تحت شعار نشر المسيحية، أبادوا 90% من سكان الهنود الحمر خلال قرنٍ واحد، وفقًا لتقديرات المؤرخ “ديفيد ستانارد“. وفي الهند، حوَّلها البريطانيون إلى مزرعة قطن عملاقة؛ ففي عام 1860، كانت الهند تُنتج 45% من قطن العالم، بينما مات 10 ملايين هندي في مجاعاتٍ سببها تحويل الأراضي الزراعية إلى محاصيلَ تصديرية.
3. الاستعمار الحديث: مؤتمر برلين وتقطيع أوصال إفريقيا
في عام 1884، اجتمعت القوى الأوروبية في برلين لتقسيم القارة الإفريقية كـ”كعكة عيد ميلاد”، كما وصفها المؤرخ الألماني “غوستاف ناختيغال”. فرنسا، على سبيل المثال، احتلت الجزائر عام 1830، وصادرت 75% من أراضيها الزراعية لتصدير النبيذ، بينما قُتِلَ مليون جزائري خلال حرب التحرير (1954-1962).
4. الاستعمار الجديد: القروض بدلًا من المدافع
بعد الحرب العالمية الثانية، ظهرت آلياتٌ أكثر خبثًا. ففي كتابه “الاستعمار الجديد“، يشرح الرئيس الغاني “كوامي نكروما” كيفَ تحوَّلت الشركاتُ متعددة الجنسيات إلى أدواتٍ للهيمنة. مثالٌ صارخ: في الكونغو الديمقراطية، تتحكم شركات أجنبية بـ80% من مناجم الكوبالت، بينما يعيش 72% من السكان تحت خط الفقر.
5. الاستعمار الاستيطاني: محو الشعب لخلق وطن!
في فلسطين، منذ بدء الهجرة اليهودية عام 1882، تمَّ تدمير 530 قرية فلسطينية، وفقًا لـ”مركز الزيتونة للدراسات”. وفي أستراليا، انخفض عدد السكان الأصليين من مليون إلى 60 ألفًا خلال قرنٍ واحد بسبب المجازر والأمراض، كما تُوثق “الموسوعة الأسترالية”.
الآثار: جراحٌ لا تندمل
لم يَكنِ الاستعمارُ مجرد سيطرةٍ عسكرية، بل كانَ مشروعًا ثقافيًّا لطمس الهُوية. ففي المغرب، حظر الفرنسيون اللغة الأمازيغية، ووصفوها بـ”لهجة بدائية”، وفقًا لأرشيف “المعهد الفرنسي للتاريخ”. أما اقتصاديًّا، فقد حوَّل الاستعمارُ الدولَ إلى “مزارع خامات”: فالهند، التي كانت تُنتج 25% من الناتج العالمي عام 1750، انخفضت حصتها إلى 2% بعد قرنٍ من الحكم البريطاني، بحسب اقتصاديّ “أنغوس ماديسون”.
الأدب مرآة الاستعمار
لم يسلمْ الأدبُ من تأثيرات هذه الآلة الجارفة. ففي كتاب “معذبو الأرض“، يحلل فرانتز فانون كيفَ يَخلقُ المستعمِرُ صورةَ “الهمجي” لتبرير العنف. أما نجيب محفوظ، في روايته “ثرثرة فوق النيل”، فيسخر من النخبة المصرية التي تَتبنى قيم المستعمِر حتى بعد رحيله.
الاستعمار اليوم: وجوهٌ جديدة لآلة قديمة
لم تختفِ الروح الاستعمارية، بل تَخفَّتْ بثياب العولمة. فـ”الهيمنة الرقمية” مثالٌ معاصر: 90% من بيانات أفريقيا تُخزن خارج القارة، وفقًا لتقرير الاتحاد الأفريقي 2023. وحتى في اللغة، نرى سطوة الإنجليزية: 80% من الأبحاث العلمية تُنشر بها، بينما تُمثل العربية 1% فقط، كما تُظهر إحصائيات “اليونسكو”.
الخاتمة: هل نعيش عصر الاستعمار الرقمي؟
ربما يَعتقدُ البعضُ أنَّ عصر الاستعمار ولى، لكنَّ الدكتور أشرف إبراهيم زيدان يُذكرنا في كتابه “نظرية ما بعد الاستعمار” بأنَّ “الهيمنةَ تَتناسخُ لا تَموت”. فهل نَسمحُ للتاريخ أن يَكررَ نفسَه؟ الجوابُ يَكمُنُ في وعينا بجذور الماضي، وصناعتنا لمستقبلٍ لا يَسمحُ بتكرار هذه المأساة.
مراجع المقال:
- إدوارد سعيد، “الثقافة والإمبريالية“.
- كوامي نكروما، “الاستعمار الجديد”.
- “Our World in Data” للإحصائيات التاريخية.