معنى كلمة “تونس”: تحليل تاريخي ومعرفي عبر العصور

إن كلمة “تونس” ليست مجرد رمز على الخريطة، بل هي عنوان لحكاية طويلة امتدت عبر العصور، زخّتها أمواج التاريخ وأسطع نورها عبر الزمان. منذ أن كانت أولى خطوات الفينيقيين على سواحلها، مرورًا بالعهد الإسلامي الذي أضاء أفقها، وصولًا إلى العصر الحديث الذي تشهد فيه المدينة على تطور لا يعد ولا يحصى. تونس، تلك المدينة التي امتزجت فيها أعماق الحضارات وتعددت فيها الوجوه الثقافية، لم تكن فقط مهدًا للعلم والفكر، بل كانت ملهمة للشعراء والأدباء من شتى بقاع الأرض. وقد أثبتت تونس مرارًا وتكرارًا أنها ليست فقط مركزًا حضاريًا، بل أيضًا نبضًا حيويًا في قلب البحر الأبيض المتوسط.
1. أصل كلمة “تونس”: الجذور اللغوية والتفسيرات المختلفة
ما معنى “تونس”؟ هل هي مجرد لفظ عابر؟ أم أنها كلمة تحمل في طياتها ثقل التاريخ؟ يقول البعض إن أصل الكلمة يعود إلى الجذر الفينيقي “تُؤنس” (TNS)، الذي يشير إلى الاستقرار والراحة. وهكذا، كانت تونس ملاذًا منذ العصور القديمة، حيث كانت بمثابة مأوى للمسافرين، واستقرارًا للتجار والفاتحين. ولكن، هناك من يرى أن التفسير الأمازيغي لها أكثر دقة؛ حيث يعتقد البعض أن الكلمة قد تكون مشتقة من “تيناس”، وهي كلمة أمازيغية قديمة تعني الأرض الخصبة التي تفيض بالعطاء.
أما الرأي العربي فيرى أن كلمة “تونس” قد تكون من الفعل العربي “تَأَنَّسَ”، أي أن المقصود بها هو إقامة البشر في مكان يبعث فيهم الطمأنينة والهدوء، في إشارة إلى حالة الاستقرار التي كانت تعيشها المدينة.
2. تونس في العصور القديمة: من “قرطاج” إلى “تونيس”
ما أروع تاريخ تونس الذي يعود إلى قرون غابرة! كانت “قرطاج” في القرن التاسع قبل الميلاد واحدة من أعظم المدن التي أنشأها الفينيقيون في البحر الأبيض المتوسط. ولم يكن موقعها الجغرافي وحده ما جعلها محط أنظار الأمم، بل كان موقعها الاستراتيجي الذي جعلها قلبًا نابضًا للتجارة في البحر الأبيض.
قرطاج والحروب البونية:
كانت قرطاج تدير بحار العالم القديم، وعُرفت كقوة بحرية لا يستهان بها. ولكن التاريخ الذي لا يرحم وضع حدًا لحضارتها العريقة بعد أن دارت الحروب البونية مع روما، وها هي ذي الأرض تُمسح من أسمائها، لكن اسم “تونيس” ظل شامخًا كشاهد على عظمة هذا الماضي.
ابن خلدون ورؤيته لقرطاج:
وفي “المقدمة” الشهيرة، وصف ابن خلدون قرطاج بأنها كانت أحد أعظم مراكز الحضارة في البحر الأبيض المتوسط، وذكر أهمية موقعها في التجارة والصناعة، مشيرًا إلى تأثيرها العميق في ثقافة المنطقة.
3. تونس في العهد الروماني: “تونيس” و”أفريكا”
ومع دخول الرومان في القرن الأول قبل الميلاد، سطع اسم “أفريكا” الذي أصبح يشمل معظم شمال إفريقيا، لكنه لم يلغِ اسم “تونيس” الذي بقي حاميًا لذاكرة المدينة القديمة.
تونس تحت الحكم الروماني:
انتعشت المدينة وازدهرت في ظل الإمبراطورية الرومانية، إذ شهدت تطورًا عمرانيًا رائعًا، وتحولت إلى إحدى أكبر المقاطعات في شمال إفريقيا. من معابدها ومسرحها إلى طرقها العريقة، كل شيء في تونس كان شاهدًا على هذه الحقبة الذهبية.
ابن خلدون وتأثير الرومان:
رغم دخول الرومان، بقي ابن خلدون يشير إلى أن تونس ظلت منارة علمية وثقافية في عهدهم، وأنه لولا الرومان، لما كانت المدينة لتصل إلى هذا الذروة من التقدم والازدهار.
4. تونس في العهد الإسلامي: الفتح الثقافي والعلمي
عام 697م كان التاريخ يشهد بدايات فجر جديد لتونس بعد الفتح الإسلامي. وصل الفاتح حسان بن النعمان، ليبدع من جديد في بناء دولة إسلامية متقدمة، كانت تونس على رأسها مركزًا علميًا وثقافيًا.
الفتح الإسلامي:
فتحت تونس أبواب العلم والشريعة، حيث ازدهرت في العهد الأموي والعباسي العديد من المدارس العلمية والفكرية.
الدولة الأغلبية وتطور العلوم:
في القرن التاسع الميلادي، أضاءت تونس بنجوم العلماء والفلاسفة، إذ تأسست جامعة الزيتونة، التي كان لها دور حاسم في نقل العلوم الإسلامية، وكانت بمثابة منارة تضيء العالم الإسلامي.
5. تونس في العصر الحديث: الاستعمار الفرنسي والمقاومة الوطنية
في 1881م، دخلت تونس تحت وطأة الاستعمار الفرنسي، ولكن قلب الشعب التونسي كان ينبض بالحرية، وقاد حركات مقاومة عارمة ضد هذا الاحتلال.
المقاومة الوطنية:
قاد الحبيب بورقيبة، وغيره من الأبطال، معركة الاستقلال بكل شجاعة، حتى تحققت النصر في 1956م، لتولد تونس الحديثة التي تسعى إلى بناء مستقبل مشرق.
6. تونس في الشعر العربي: أبو القاسم الشابي ونزار قباني ومحمود درويش
تونس ليست فقط رمزًا حضاريًا في التاريخ، بل هي أيضًا مصدر إلهام دائم للمبدعين، سواء في الشعر أو الأدب.
أبو القاسم الشابي:
لا أحد يمكنه أن ينسى قصيدته الشهيرة “إذا الشعب يومًا أراد الحياة”، حيث كانت تونس هي الحافز الأول وراء إبداع هذا الأديب. في كلماته، عبر عن حلم الأحرار وطموحات الشعوب.
إِذا الشَّعْبُ يوماً أرادَ الحياةَ
فلا بُدَّ أنْ يَسْتَجيبَ القدرْ
ولا بُدَّ للَّيْلِ أنْ ينجلي
ولا بُدَّ للقيدِ أن يَنْكَسِرْ
قصيدة نزار قباني عن تونس:
وقد أهدى نزار قباني تونس قصيدته الشهيرة، التي رسم فيها صورتها الجميلة في الذهن العربي، مؤكداً مكانتها التاريخية والثقافية.
ياتونس الخضراء جئتك عاشقا *** وعلى جبيني وردة وكتاب
إني الدمشقي الذي احترف الهوى*** فاخضوضرت بغنائه الأعشاب
أحرقت من خلفي جميع مراكبي*** إن الهوى ألا يكون إياب
محمود درويش وتونس:
أما الشاعر الفلسطيني محمود درويش، فخص تونس بعدد من القصائد التي أضاءت جمالها وأصالتها، وأكدت على دورها في الحفاظ على هوية العرب.
شكراً لتونس. أَرْجَعَتنْي سالماً من
حبها، فبكيتُ بين نسائها في المسرح
البلديِّ حين تملِّصَ المعنى من الكلمات.
كُنْتُ أودِّعُ الصيفَ الأخيرَ كما يودِّعُ
شاعرٌ أُغنيةً غَزَلِيَّةً: ماذا سأكتبُ
بعدها لحبيبةٍ أُخرى …. إذا أَحببتُ؟
في لُغَتي دُوارُ البحر في لغتي رحيلٌ
غامضٌ من صُورَ لا قرطاجَ تكبحُهُ، ولا
ريحُ البرابرة الجنوبيِّين. جئت على
وتيرة نَوْرَسٍ، ونَصَبْتُ خيمتي الجديدةَ
فوق مُنْحَدَرٍ سماويٍّ. سأكتبُ ههنا فصلاً
جديداً في مديح البحر: أُسْطوريَّةٌ
لغتي وقلبي مَوْجةٌ زرقاءُ تخدشُ
صخرةً: ((لا تُعْطني، يا بحرُ، ما
لا أَستحقُّ من النشيد. ولا تكن
يا, بحرُ، أكثرَ أو أَقلَّ من النشيد!))…
7. خاتمة:
وها نحن نعود إلى حيث بدأت الحكاية، إلى كلمة “تونس” التي حملت بين حروفها تاريخًا عظيمًا، وأضاءت بريقًا من العلم والفكر. من الفينيقيين إلى الرومان، ثم إلى الإسلام، لم تكن تونس مجرد نقطة في الجغرافيا، بل كانت أرضًا تحتفظ في ذاكرتها عبق الحضارات. وفي الشعر العربي، ظل اسم تونس يطفو على صفحات الأدب، ليبقى أسمًا خالدًا في ذاكرة الشعراء. إن تونس، كما قال الشابي، كانت وستظل رمزًا من رموز الحياة والحرية.