المصطلحات

معنى الهرطقة: رحلة الكلمة من التكفير إلى التحرر الفكري

هل تَعْلَمُ أَنَّ كَلِمَةً وَاحِدَةً كَانَتْ كَفِيلَةً بِإِشْعَالِ نِيرَانِ ٱلْمُحَارِقِ فِي ٱلْعُصُورِ ٱلْمُتَوَسِّطَةِ، بَيْنَمَا تُزَيِّنُ ٱلْيَوْمَ صُحُفَ ٱلثَّوَرَاتِ ٱلْفِكْرِيَّةِ؟ إِنَّهَا “ٱلْهَرْطَقَةُ”.. ذَٰلِكَ ٱلْمُصْطَلَحِ ٱلَّذِي يَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهِ دِمَاءَ ٱلْعُقَلَاءِ وَأَحْلَامَ ٱلثَّائِرِينَ. فِي ٱلْمَاضِي، كَانَ مُجَرَّدُ شَكٍّ فِي فِكْرَةٍ مُقَدَّسَةٍ يُجَعِلُكَ “مُهْرِتِقًا” يُسَاقُ إِلَى ٱلْمَوْتِ، أَمَّا ٱلْيَوْمَ، فَقَدْ تُمنَحُّ لَقَبَ “ٱلْهَرْطَقَةِ” كَوِسَامٍ إِذَا كَسَرْتَ قُيُودَ ٱلتَّقَالِيدِ. لَكِنْ كَيْفَ تَحَوَّلَتْ هَذِهِ ٱلْكَلِمَةُ مِنْ وَصْمَةِ عَارٍ إِلَىٰ رَمْزِ جُرْأَةٍ؟ هَلْ كَانَ “غَاليْلِيُّو” يُدْرِكُ وَهُوَ يُنَاجِي ٱلنُّجُومَ أَنَّ مُحَاكَمَتَهُ سَتَكُونُ بِدَايَةَ تَمَرُّدٍ عَلَىٰ كُلِّ يَقِينٍ مُطْلَقٍ؟ هُنَا، حَيْثُ يَلْتَقِي ٱلْمَاضِي بِٱلْحَاضِرِ، تَبْدَأُ رَحْلَتُنَا لِفَكِّ شِفْرَةِ ٱلْلَّفْظَةِ ٱلَّتِي حَوَّلَتِ ٱلْأَفْكَارَ إِلَىٰ جَرَائِمٍ.. وَٱلْجَرَائِمَ إِلَىٰ إِرْثٍ إِنْسَانِيٍّ خَالِدٍ.


الفصل الأول: أصل الكلمة.. حين كانت “الاختيار” جريمةً:

لَوِ اسْتَطَعْنَا أَنْ نَعْبُرَ بِالْزَّمَنِ إِلَى أَثِينَا قَبْلَ أَلْفَيْ عَامٍ، لَسَمِعْنَا الْفَلَاسِفَةَ يَتَحَدَّثُونَ عَنِ “الْهَايْرِسِيس” (hairesis)، وَهِيَ كَلِمَةٌ يُونَانِيَّةٌ تَعْنِي الِاخْتِيَارَ أَوِ الْمَذْهَبَ الْفِكْرِيَّ. كَانَ الْإِنْسَانُ الْيُونَانِيُّ يَفْتَخِرُ بِهَا كَمِفْتَاحٍ لِلتَّنَوُّعِ، لَكِنَّ الرِّيحَ غَيَّرَتْ اتِّجَاهَهَا حِينَ دَخَلَتِ الْكَنِيسَةُ الْمَسِيحِيَّةُ مَيْدَانَ الْفِكْرِ. فَتَحَوَّلَتِ الْكَلِمَةُ إِلَى سِلَاحٍ لِتَكْفِيرِ مَنْ يَخْرُجُ عَنِ الْعَقِيدَةِ الرَّسْمِيَّةِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيُحَارُ الْعَقْلُ: كَيْفَ يَصِيرُ الِاخْتِيَارُ وَصْمَةَ الِانْحِرَافِ؟

أَمَّا فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَظَهَرَتِ الْكَلِمَةُ خِلَالَ عُصُورِ التَّرْجَمَةِ، وَاخْتَلَفَ اللُّغَوِيُّونَ: فَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّهَا دَخِيلَةٌ مِنَ الْإغْرِيقِيَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ الْتَمَسَ لَهَا جَذْرًا عَرَبِيًّا فِي “الْهَرْطَقَ” (الْخَرْقُ وَالْخُرُوجُ عَنِ الْمَأْلُوفِ). وَكِلَاهُمَا يَصِفَانِ مَسَارَهَا: فَمِنْ فَضَاءِ الْفِكْرِ إِلَى زِنْزَانَةِ التَّقْيِيدِ.


الفصل الثاني: الهرطقة.. وجهٌ للفكرة الواحدة في مرايا مُختلفة:

لَيْسَتِ الْهَرْطَقَةُ وَحْشًا وَاحِدًا، بَلْ هِيَ كَالْمَاءِ تَأْخُذُ شَكْلَ الْإِنَاءِ. فَفِي الْأَدْيَانِ:

  • فِي الْمَسِيحِيَّةِ: هِيَ خُرُوجٌ عَنِ “الْحَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ” الَّتِي تُحَدِّدُهَا الْكَنِيسَةُ، فَمَنْ يُنَاقِشُ فِي أُلُوهِيَّةِ الْمَسِيحِ يُصْبِحُ مُهَرْطِقًا.
  • وَفِي الْإِسْلَامِ: تَقْتَرِبُ مِنْ “الزَّنْدَقَةِ” أَوِ “الْبِدْعَةِ”، لَكِنَّ الْفُرُوقَ دَقِيقَةٌ. فَالْبِدْعَةُ اخْتِرَاعٌ فِي الدِّينِ، أَمَّا الْهَرْطَقَةُ فَهِيَ رَفْضٌ لِأُسُسِهِ.

أَمَّا فِي مَمْلَكَةِ الْفَلْسَفَةِ، فَإِنَّ الْهَرَاطِقَةَ هُمْ أَنْصَارُ الْحَقِيقَةِ الْمُغَايِرَةِ. فَابْنُ رُشْدٍ، حِينَ جَاوَرَ بَيْنَ الشَّرِيعَةِ وَالْعَقْلِ، اتُّهِمَ بِالْإِلْحَادِ، وَفَرِيدْرِيشْ نِيتْشَهْ حِينَ نَادَى بِـ”مَوْتِ الْإِلَهِ”، صَارَ قِنْدِيلًا لِلْعُقُولِ الْحُرَّةِ. وَفِي الْعَالَمِ الْعَرَبِيِّ، لَمْ يَكُنِ الْحَلَّاجُ إِلَّا “مُهَرْطِقًا” لِأَنَّهُ اجْتَرَأَ عَلَى قَوْلِ: “أَنَا الْحَقُّ”.

وَتَعْبُرُ الْكَلِمَةُ إِلَى الْحَيِّزِ الْاجْتِمَاعِيِّ، فَتَكُونُ سِجْنَ الْأَفْكَارِ الْجَدِيدَةِ. أَلَمْ يُتَّهَمْ تْشَارْلْزْ دَارْوِينُ بِالْهَرْطَقَةِ الْعِلْمِيَّةِ لِإِثْبَاتِهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ إِلَّا حَلَقَةً فِي سِلْسِلَةِ الْحَيَاةِ؟


الفصل الثالث: دماء على جدران التاريخ.. هراطقة غيروا العالم:

لَوْ كَانَ لِلْهَرْطَقَةِ رَائِحَةٌ، لَكَانَتْ رَائِحَةَ الْحَرِيقِ. فَفِي قُرُونِ الظُّلْمَاتِ الْأُورُوبِّيَّةِ، كَانَتْ مَحَاكِمُ التَّفْتِيشِ تَحْكُمُ عَلَى الْعُلَمَاءِ بِالْمَوْتِ لِأَنَّهُمْ وَصَفُوا نُجُومَ السَّمَاءِ. جُورْدَانُو بْرُونُو، الفيلسوف الَّذِي أَدْرَكَ أَنَّ الْكَوْنَ لَا حَدَّ لَهُ، أُحْرِقَ حَيًّا عَلَى خَشَبَةٍ، وَصَارَتْ كَلِمَاتُهُ الْأَخِيرَةُ: “الْحَقُّ يُولَدُ مِنْ رَحِمِ الْعَذَابِ” صَرْخَةً فِي وَجْهِ الْقُيُودِ.

وَفِي الْمَشْرِقِ، لَمْ تَكُنِ الْهَرْطَقَةُ أَقَلَّ فَظَاعَةً. فَالْحَلَّاجُ الَّذِي تَجَرَّأَ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِيقَةِ بِقَلْبِهِ، لَمْ يَنْجُ مِنْ سَيْفِ السُّلْطَةِ الدِّينِيَّةِ. حَتَّى ابْنُ تَيْمِيَّةَ، الَّذِي نَاصَرَ السُّنَّةَ، وُصِمَ هُوَ نَفْسُهُ بِالْهَرْطَقَةِ مِنْ قِبَلِ خُصُومِهِ. فَالْكَلِمَةُ، إِذَنْ، لَيْسَتْ إِلَّا سِلَاحًا بِيَدِ الْأَقْوَى.


الفصل الرابع: الهرطقة الحديثة.. حين صارت “الحرية” مذهبًا:

الْيَوْمَ، تَتَحَوَّلُ الْهَرْطَقَةُ إِلَى فَضَاءٍ لِلتَّسَاؤُلِ: أَيْنَ يَنْتَهِي الدِّينُ وَيَبْدَأُ الْعِلْمُ؟ أَيْنَ تَنْكَسِرُ الْقُيُودُ لِتَلِدَ حُرِّيَّةً؟ فَالْعَصْرُ الْحَدِيثُ لَمْ يَعُدْ يُحَاكِمُ الْفِكْرَ، وَلَكِنَّهُ يَخْلُقُ هَرَاطِقَةً جُدُدًا:

  • فِي الْعُلُومِ: مَنْ يُنَاقِشُ “نَظَرِيَّةَ الْتَّطَوُّرِ” أَوْ يُنْكِرُ تَغَيُّرَ الْمُنَاخِ، يُوصَمُ بِالْجَهْلِ أَوِ الْهَرْطَقَةِ بِاسْمِ الْعِلْمِ!
  • وَفِي الْفَنِّ: لَوَحَاتٌ تَتَحَدَّى الْمُحَرَّمَاتِ، وَأَغَانٍ تَكْسِرُ حُدُودَ الْعُرْفِ، تُصَنَّفُ كَـ”خُرُوجٍ عَنِ الْمِيثَاقِ”.

لَكِنَّ الْجَدَلَ الْأَكْبَرَ يَبْقَى: هَلْ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْهَرْطَقَةُ وَسِيلَةً لِحِمَايَةِ الْحَقِيقَةِ أَمْ هِيَ فِخٌّ لِقَتْلِهَا؟ أَلَيْسَ كُلُّ عَصْرٍ يُعِيدُ اخْتِرَاعَ وَصْمَتِهِ الْخَاصَّةِ؟


الفصل الخامس: الهرطقة والسلطة.. صراعٌ أزليٌّ بين الحقيقة والقوة:

لَوْ سَأَلْنَا: مَنْ يُحَدِّدُ مَنْ هُوَ الْمُهَرْطِقُ؟ لَكَانَ الْجَوَابُ: الْسُّلْطَةُ. فَالتَّارِيخُ يُخْبِرُنَا أَنَّ الْهَرْطَقَةَ لَيْسَتْ إِلَّا وَسِيلَةً لِقَمْعِ الْآخَرِ. فَالْكَنِيسَةُ احْتَكَرَتِ الْحَقَّ، وَالدَّوْلَةُ الْعَلْمَانِيَّةُ احْتَكَرَتِ الْعَقْلَ، وَالْأَيْدِيُولُوجِيَّاتُ احْتَكَرَتِ الْحُرِّيَّةَ. وَفِي كُلِّ حَالٍ، يَبْقَى السُّؤَالُ: هَلْ نَحْتَاجُ إِلَى هَرَاطِقَةٍ جُدُدٍ يُحَطِّمُونَ أَصْنَامَ الْيَقِينِ، أَمْ أَنَّ الْعَالَمَ الْيَوْمَ قَدْ صَارَ بِسَعَةِ الْفِكْرِ وَالِاخْتِلَافِ؟


الخاتمة:

هَكَذَا تَمْشِي الْهَرْطَقَةُ عَلَى حَبْلٍ مَمْدُودٍ بَيْنَ الْجَحِيمِ وَالْجَنَّةِ. فَمَنْ يَقْرَأُ تَارِيخَهَا يَرَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ إِلَّا مِرْآةً لِصِرَاعِ الْإِنْسَانِ بَيْنَ خَوْفِهِ مِنَ الْمَجْهُولِ وَشَغَفِهِ بِكَشْفِهِ. فَهَلْ نَحْنُ مُسْتَعِدُّونَ الْيَوْمَ لِأَنْ نَرْحَبَ بِالْمُهَرْطِقِينَ الْجُدُدِ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ مَشَاعِلَ الْسُّؤَالِ فِي عَالَمٍ مُمْتَلِئٍ بِالْأَجْوِبَةِ الْجَاهِزَةِ؟
أَمْ أَنَّنَا، كَمَا الْأَسْلَافُ، سَنُحَوِّلُهُمْ إِلَى أَسَاطِيرَ نَحْكِيهَا لِلْأَحْفَادِ بَعْدَ أَنْ نُحْرِقَهُمْ عَلَى مَذْبَحِ الْيَقِينِ؟

شارِكْنَا بِرَأْيِكَ: هَلْ تَرَى أَنَّ الْهَرْطَقَةَ ضَرُورَةٌ لِتَقَدُّمِ الْفِكْرِ، أَمْ هِيَ سِلَاحٌ لِهَدْمِ الثَّقَافَاتِ؟

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى