المصطلحات

معنى النفاثات في العقد: أصل العبارة، تفسيراتها، ودلالاتها

لماذا اختار القرآن الكريم هذه العبارة الغامضة، “النفاثات في العقد”، ليحذرنا من شرٍّ لا نراه؟ هل كان السحر في الجاهلية قوةً خفيةً تُحاك في الظلام، أم أن العقد التي تُنفَث فيها هي مجازٌ عن شرورٍ أعقد من خيوط العنكبوت؟
إن الوقوف على معنى هذه الآية (وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ) ليس ترفًا فكريًا، بل هو فكٌّ لشفرات ثقافةٍ قديمة، وكشفٌ عن حكمة القرآن في مخاطبة الوعي الإنساني عبر الرموز. فالكلمات هنا ليست حروفًا جامدة، بل نوافذُ نطل منها على عالمٍ من الدلالات التي تمسّ جوهر الإيمان والواقع.


الفصل الأول: في أعماق اللغة.. نفثُ السحر وعقدُ الخيوط

النفاثات: ريق الساحرات ونَفَسُ الشر

لو أمسكنا بمعجم اللغة لوجدنا أن “النفث” هو نفخٌ خفيفٌ يصاحبه ريقٌ يسير، كالذي يفعله من يَشُكُّ في سمٍّ ليداويه بنفثه. لكن العرب في جاهليتهم رأوا في هذا الفعل البسيط جسرًا إلى عالم السحر. فالساحرات – كما يروي الأقدمون – كنَّ ينفثنَ في عُقدِ الخيوط وهنَّ يتمتمنَ بالتعاويذ، وكأن النفثَ طاقةٌ خبيثةٌ تنتقل عبر الهواء لتحلَّ في جسد الضحية.
وليس النفثُ كالنفخ؛ فالأول خفيٌّ سريعٌ كالهمسة، بينما الثاني جهرٌ كريح العاصفة. وكأن القرآن يلفتنا إلى أن الشرور الكبرى قد تأتي من أصغر الأفعال، إذا اقترنت بنية الإيذاء.

العقد: خيوط القدر وشباك السحر

أما “العقد” فهي – في أبسط معانيها – تشابك الخيوط وتضافرها. لكنها في ثقافة العرب قبل الإسلام تحولت إلى رمزٍ للربط بين الأحداث والنفوس. فالساحرة تعقد الخيط عقدةً بعد عقدة، ومع كل عقدةٍ تذكر اسم الضحية، حتى إذا انتهت نفثت فيها لتنفذ اللعنة.
ويروي ابن منظور في “لسان العرب” أن العرب كانت تتشاءم من العقد إذا أسيء استخدامها، حتى إنهم كانوا يَقطعون عُقدَ الرحل إذا خافوا السحر. فالعقد هنا ليست ماديةً فحسب، بل هي عقدٌ معنويةٌ تُحاك في العلاقات والأقدار.


الفصل الثاني: الآية في سياقها.. بين الوحي والتاريخ

لماذا نزلت هذه الآية؟ قصة السحر والشورى

يحكي المفسرون – كالطبري وابن كثير – أن يهوديًّا من بني زريق اسمه لبيد بن الأعصم سحر النبي ﷺ بمشطٍ ومشاطة (شعرٍ) جُعِلت في جفّ طَلعَةٍ (قِشر النخلة)، وُضِعت تحت بئرٍ. فلما نزلت سورتا الفلق والناس، تحرر النبي من السحر، وكُشِف مكان الدفينة.
هذه الرواية – وإن اختلف في صحتها بعض المحدثين – تُظهِر كيف فهم الصحابةُ الآيةَ على أنها تحذيرٌ من السحر المادي، لكنها أيضًا تفتح الباب لتأويلاتٍ أعمق.

كيف فسرها الأقدمون؟ صوت الساحرة وصورة الشر

  • الطبري: يرى أن النفاثات هن نساءٌ يمارسن السحر بالنفث في العقد، مستشهدًا بشعرٍ جاهليٍّ يصف ساحرةً “تنفثُ في عُقدِ الخيط”.
  • القرطبي: يربط بين العقد و”عقدة النكاح”، فيشير إلى أن السحر قد يُستخدَم في التفريق بين المرء وزوجه.
  • الشعراوي: ينفذ إلى البعد النفسي؛ فالنفث في العقد رمزٌ للكلمة الخبيثة التي تُزرع في المجتمع فتُفسِد العلاقات كالسوس!

الفصل الثالث: العقدة في المذاهب.. بين الشيعة والسنة

عند الشيعة: العقدةُ اختبارٌ وإيمانٌ

ينقل الكليني في “الكافي” عن الإمام الصادق قوله: “النفاثات هنَّ النساء السواحر اللاتي يُفسِدنَ العلاقات بالعيون والنفث”. لكن التفسير الشيعي يضيف بُعدًا أخلاقيًا: فالعقد ليست سحرًا فقط، بل كل محاولةٍ لتعطيل الخير عبر المؤامرات الخفية. وفي كتاب “تفسير الميزان” للطباطبائي إشارةٌ إلى أن الاستعاذة بالله منها تذكيرٌ بأن الحلَّ الوحيد للشرور المعقدة هو التوكل.

عند السنة: العقدةُ والرقيةُ الشرعية

يركز علماء السنة – كابن تيمية وابن باز – على أن الآية تشرع الرقية بالقرآن. ففي “فتاوى اللجنة الدائمة” تحذيرٌ من اللجوء إلى السحرة، مع تأكيدٍ أن سورة الفلق نفسها أعظم رقيةٍ من النفاثات. بل إن ابن باز يقول: “السحر حقٌّ، والاستعاذة منه واجبةٌ كالاستعاذة من الشيطان”.


الفصل الرابع: النفاثات في عيون العلم والأدب

العِلم الحديث: هل للسحر تأثيرٌ مادي؟

قد يسخر البعض من فكرة النفث في العقد، لكن علم النفس يقدم تفسيرًا مدهشًا: فـ”التأثير اللاواعي” (Placebo Effect) يثبت أن اعتقاد الضحية في السحر يُضعف مناعتها النفسية، فيصبح الأذى حقيقةً. وهنا تظهر عبقرية القرآن في محاربة الأوهام عبر تعزيز اليقين بالله.

الأدب الجاهلي: ساحراتٌ في المعلقات

لم تكن النفاثات وليدة القرآن، بل هنَّ جزءٌ من مخيلة العرب القديمة. ففي معلقة امرئ القيس وصفٌ لساحرةٍ “تعقد السحرَ بخيطٍ معقود”، بينما تصف قصائدُ أخرى كيف كانت العقدُ تُستخدم في الحب والكراهية. فكأن القرآن حوَّرَ رمزيةً موجودةً ليهدم فكرةَ السحر من داخلها.


الأسئلة الملحة: لماذا؟ وكيف؟ وماذا بعد؟

السؤالالجواب بأسلوب قصصي
لماذا قال الله: “وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ”؟لأن الشرَّ قد يأتيك من حيث لا ترى.. كهمسة ساحرةٍ في ظلام!
كيف يتم النفث في العقد؟بتعاويذَ مكتوبةٍ بالظلام، وخيطٍ يُعقد فيه اسمك ثم يُدفن تحت الرمال!
ما رأي ابن باز في النفاثات؟قال: “لا تستخفّوا بالسحر، فهو كالسم يُقتل بصمت”!

الخاتمة: العقدةُ التي تحررنا

ليست “النفاثات في العقد” مجردَ ذكرى لسحرٍ انقرض، بل هي صورةٌ عن كل شرٍّ يعتمد على التمويه والتعقيد. والقرآن – بتحذيره منها – يعلّمنا أن الخيوط المعقودةَ يمكن فكّها بكلمة “أعوذُ برب الفلق”، وأن النفثَ الخبيثَ يضمحلُّ أمام نفثَةِ الإيمان.
فهلمَّ نقرأ السورة مرةً أخرى، ولكن هذه المرة.. وكأننا نحرق خيوطَ السحر بحروف النور.

قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلۡفَلَقِ (1) مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّٰثَٰتِ فِي العُقَدِ (4) وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى