المصطلحات

معنى اللهم بلغنا رمضان: أصل العبارة وأسرار دلالاتها الروحية

إذا كان الشوقُ إلى رمضان نبضًا، فإن دعاء “اللهم بلغنا رمضان” هو لسانُ ذلك النبض. ليستْ كلماتُ الدعاء مجردَ ألفاظٍ تُقال، بل هي نفحةٌ روحيةٌ تختزلُ أشواقَ العابدين لشهرٍ يُجدد الإيمان، ويُحيي القلوب. فما قصةُ هذه العبارة؟ وكيف تحولتْ إلى جسرٍ بين الأرض والسماء؟ دعونا نغوصُ في أعماقها، حرفًا حرفًا، كما يغوصُ الباحثُ عن اللؤلؤ في أعماق البحر.


الفصل الأول: تشريحُ العبارة.. بين اللغة والشرع

1. اللهم: النداءُ الذي يهزُّ السماوات

“اللهم” ليستْ مجردَ أداة نداء، بل هي مفتاحُ الدعاء. يقول ابنُ منظور في “لسان العرب”: “اللهم: يا الله، والميمُ عِوَضٌ من حرف النداء”. إنها صيغةٌ تفيد التضرع، كأنما يجمعُ الداعي بين التوسل باسم الله والابتهال إليه. وكما قال الإمامُ الشافعي: “إذا دعوتَ فَأعْظِمِ الداعي، فإنك تدعو عظيمًا”.

2. بلغنا: رحلةُ الزمنِ والإرادة

الفعل “بلغنا” يحملُ في طياته معنيين:

  • البلوغ الزمني: طلبُ إدراك الوقت المحدد، كقولك: “بلغتُ العشرين”.
  • البلوغ القصدي: تحقيقُ الغاية، كقولك: “بلغتُ المراد”.
    فليس المطلوبُ مجردَ وصول رمضان، بل وصولُه ونحنُ أهْلٌ لاستقباله. وكما قال سفيانُ الثوري: “ليس الشأنُ أن تبلغ رمضان، بل الشأنُ أن يبلغك اللهُ فيه”.

3. رمضان: اسمٌ على مسمى

اشتقاقُ الاسم من “الرمض” – شدة الحر – إشارةٌ إلى تطهيرِ القلب من أدران الذنوب كحر الشمس يُذيب الثلج. وقيل: سُمي رمضان لأنه يرمضُ الذنوبَ (يحرقها). وقد ورد في “الصحاح” للجوهري: “رمضان: اسمٌ من أسماء الله تعالى”، لكن المحققين كابن تيمية نفوا ذلك، مؤكدين أنه اسمٌ للشهر الكريم.


الفصل الثاني: الدعاءُ.. تاريخٌ من الأشواق

1. في رحاب السنة: دموعُ النبي والصحابة

كان النبي ﷺ إذا دخل رجبٌ قال: “اللهم بارك لنا في رجب وشعبان، وبلغنا رمضان” (رواه الطبراني). وكان الصحابةُ يعيشون ستةَ أشهر في انتظار رمضان، وستةً في الدعاء بقبول الأعمال. تقول السيدةُ عائشة: “كان النبي ﷺ يصومُ شعبان كله إلا قليلاً”، استعدادًا لاستقبال الضيف الكريم.

2. سلفٌ يدعو.. وقلبٌ يخشع

في “حلية الأولياء” لأبي نعيم: كان الحسن البصري إذا أقبل رمضان يقول: “يا مالكَ القلوب، بلغني رمضان وأنا سليمُ القلبِ من الشحناء”. أما الإمام مالك فكان يرفعُ يديه عند رؤية الهلال قائلاً: “اللهم أهلله علينا بالأمن والإيمان”. هكذا كان الدعاءُ مدرسةً لتربية الروح قبل الجسد.


الفصل الثالث: معانيُ تتجاوز الألفاظ

1. البلاغُ الحسي والمعنوي

  • البلاغ الحسي: أن تُدرك رمضان بجسدك، فلا يحولُ بينك وبينه مرضٌ أو موت.
  • البلاغ المعنوي: أن تُدركه بقلبك، فلا يُصادفك غافلًا أو مُقصرًا.
    يقول الغزالي في “إحياء علوم الدين”: “بلوغُ رمضان نعمةٌ تستحق الشكر، وشكرُها اغتنامُ أوقاته”.

2. “لا فاقدين ولا مفقودين”: فلسفةُ الوجود مع الآخر

هذه الزيادةُ – وإن لم ترد في السنة – تعكسُ رؤيةَ الإسلام للوجود الجماعي. فالداعي لا يطلبُ بلوغَ الشهر لنفسه فقط، بل يريدُ أن يحيا أحباؤه ليشهدوا الخير معه. يقول ابنُ باز: “لا بأسَ بهذه الزيادة إذا قُصد بها الدعاءُ ببقاء الأحياء”. أما ابن عثيمين فكان يرى الاقتصارَ على المأثور أولى.


الفصل الرابع: أسئلةُ القلوب المُرهفة

1. س: متى أبدأ الدعاء ببلوغ رمضان؟

الجواب: من لحظةِ وداع رمضان السابق! فقد كان السلفُ يدعون ستةَ أشهر قبلَه، وستةً بعدَه. يقول الربيع بن خثيم: “من دعا اللهَ ستةَ أشهر أن يبلغه رمضان، كتب اللهُ له أجرَ صيامه”.

2. س: هل يجوز الدعاءُ ب”لا فاقدين”؟

الجواب: نعم، بشرط ألا يُعتقدَ أن هذه الصيغةَ من السنة. يقول الدكتور القرضاوي: “الدعاءُ مباحٌ ما لم يخالفْ شرعًا، لكن الأفضلُ التزامُ الوارد”.


الفصل الخامس: أدعيةٌ.. كالندى على الأرواح

1. من كنوز السلف

  • “اللهم بلغني رمضان وأنا في حِلٍ من آلام الجسد، حرِّي الفؤاد”. (عبد الله بن المبارك)
  • “يا رب، لا تجعلْ رمضانَ آخرَ العهد مني”. (سلمان الفارسي)

2. صيغٌ معاصرةٌ بلسان التراث

  • “اللهم بلغنا رمضانَ ونحنُ في عافيةٍ تُعيننا على قيام الليل، وصبرٍ يُلهمنا حلاوةَ الصيام”.
  • “يا رب، اجعلْ رمضانَ محطةً تُعيدُنا إليك، كما تعودُ الفراشاتُ إلى الأزهار”.

الخاتمة: الدعاءُ.. بدايةُ الطريق لا نهايته

“اللهم بلغنا رمضان” ليستْ مجردَ أمنيةٍ عابرة، بل هي خريطةُ استعداد. فكما يستعدُ الفلاحُ لزرع الأرض قبل المطر، ينبغي للمسلم أن يستعدَ لرمضان قبل قدومه. فهل نكونُ من الذين إذا دعوا استعدوا، أم من الذين يكتفون بالتمني؟!


مراجعُ المقال

  1. زاد المعاد” لابن القيم – فصل: هدي النبي ﷺ في رمضان.
  2. فتح الباري” لابن حجر – شرح حديث صيام شعبان.
  3. مجموع فتاوى ابن باز” (ج15) – حكم الزيادة في أدعية رمضان.
  4. موقع “الإسلام ويب” – فتوى رقم: 34211 حول دعاء “لا فاقدين ولا مفقودين”.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى