المصطلحات

معنى اللاهوت: رحلةٌ عبر الزمن تُجسِّد حوار الإيمان والعقل

كيف لَكَلمةٍ أن تُحمِّل في حروفها القليلة أسرارَ الوجود، وتُصارعَ الأسئلةَ التي تُقلقُ البشرَ منذ فجر التاريخ؟ إنها “اللاهوت”، ذلك المصطلح الذي يبدو للوهلة الأولى كسِربِ غمامٍ يلفُّ حقائقَ الدين والفلسفة، لكنه عند التأمل ينفتحُ كَنافذةٍ تُطلُّ على عوالمَ من الجدلِ والعِلمِ والتصوُّف. هنا، في هذا المقال، سنسيرُ معاً على دروبِ هذه الكلمة، نتعقَّبُ أصولَها في لغاتٍ ماتت، ونغوصُ في معانيها التي ما زالت تُنبضُ بالحياة، كأنها نهرٌ يجري من اليونان القديمة إلى صالوناتِ الفلاسفة المسلمين، حاملاً معه أسئلةً تُلاحقُ الإنسانَ حيثما كان: مَنْ هو الإله؟ وكيف نُدرِكُه؟ وهل يكفي الإيمانُ وحده، أم أنَّ العقلَ شريكٌ في هذه الرحلة؟


الفصل الأول: الجذورُ التي اختبأت تحت الرمال

قبل أن تُولدَ كلمة “اللاهوت”، وقبل أن تُكتَبَ بحروفٍ عربيةٍ تزهو بأناقتها، كانت هناك “ثيولوجيا” اليونانية، تلمعُ في حوارات أفلاطون كشمعةٍ في معبدٍ مظلم. كلمةٌ مُركَّبةٌ من “ثيوس” (الإله) و”لوجوس” (الخطاب أو العقل)، لتُشيرَ إلى ذلك الحوارِ الجريءِ الذي جمعَ الفلاسفةَ حول طبيعةِ الآلهةِ وقدرتِها على التدخُّل في مصائر البشر.

لكنَّ الرحلةَ لم تتوقَّف هنا. فمع انهيارِ تماثيلِ الآلهةِ الوثنية، وُلدت مسيحيةٌ تبحثُ عن لغةٍ جديدةٍ لتُعبِّرَ عن سرِّ التجسُّد. هنا، انتقلت “ثيولوجيا” من اليونانية إلى السريانية على أيدي رهبانٍ ومُترجمينَ عُبَّادٍ، مثل حنين بن إسحق، الذي لم يكن ينقلُ الكلماتِ فحسب، بل ينقلُ العُقولَ بأكملها. وهكذا، تحوَّلت “ثيولوجيا” إلى “لاهوت” عربية، كأنما الحروفُ نفسَها اجتهدت لتُعبِّرَ عن مضمونٍ جديد: “اللاهوت” (الإله + وَت)، حيث “الوَتُ” في العربية القديمة يُشيرُ إلى الصناعةِ والفنِّ، فكأنما اللاهوتَ هو “صناعةُ الحديث عن الإله”، أو “فنُّ سبر أغوارِه”.


الفصل الثاني: المعنى الذي يتنكَّرُ في ثيابِ العصور

إذا حلَّلنا الكلمةَ كيميائياً، لوجدناها تنقسمُ إلى “إله” و”الوهية”، لكنَّ روحَها تتسعُ لتشملَ كلَّ ما دارَ في فلكِها من معانٍ. في المسيحية، صار اللاهوتُ علماً يدرسُ اللغزَ الأكبر: كيف يلتقي اللاهوتُ (الألوهية) بالناسوت (البشرية) في شخص المسيح؟ هنا، تحوَّلت الكلمةُ إلى ساحةِ معركةٍ بين المذاهب، فكلُّ فريقٍ يُمسكُ بمطرقةِ النصوصِ ليُثبِّت رأيَه، وكأنما اللاهوتَ مرآةٌ تعكسُ صراعاتِ البشرِ حول الحقيقة المطلقة.

أما في الإسلام، فقد ارتدى اللاهوتُ ثوباً جديداً اسمه “علم الكلام”. ففي كتبِ الغزالي مثل “الاقتصاد في الاعتقاد“، نرى كيف تحوَّل النقاشُ من جدالٍ حول طبيعة المسيح إلى سؤالٍ عن صفاتِ الله: هل يُرى في الآخرة؟ وهل أفعالُ البشر مُقدَّرةٌ سلفاً؟ هنا، لم يعد اللاهوتُ مجردَ حديثٍ عن الإله، بل أصبحَ سلاحاً للدفاعِ عن العقيدة ضدَّ الشكوك، وكأن الفلاسفةَ المسلمينَ أرادوا أن يقولوا: “الإيمانُ لا يكتملُ إلا إذا تحدَّى العقلُ نفسَه”.

لكنَّ اللاهوتَ لم يقتصرْ على الديانات. ففي الهند، نجدُ “فيدانتا” التي تُناقشُ وحدةَ الوجودِ، وفي الفلسفةِ الحديثة، صار اللاهوتُ باباً لدراسةِ كلِّ ما هو مقدَّس، حتى عند من يُنكرون وجودَ الإله، كأنما الكلمةَ تملكُ قوةً تجعلُ حتى الملحدَ يُنصتُ إليها.


الفصل الثالث: الدلالاتُ التي تُشبهُ الأمواجَ المتلاطمة

اللاهوتُ ليس مجردَ نظرياتٍ تُكتبُ في الكتب، بل هو قوةٌ تُحرِّكُ التاريخ. ففي أوروبا العصور الوسطى، اصطدمَ لاهوتُ الكنيسةِ مع اكتشافاتِ العلم، فكانت محاكمةُ غاليليو صرخةً مدوِّية: “هل يُمكنُ أن يُخطئَ الكتاب المقدسُ إذا قال إن الشمسَ تدورُ حول الأرض؟”. هنا، تحوَّل اللاهوتُ إلى سجنٍ للعقلِ عند البعض، وإلى منارةٍ للحقيقةِ عند البعض الآخر.

لكنَّ اللاهوتَ يملكُ وجوهاً أخرى. فبينما كان الفلاسفةُ المسلمونَ مثل ابن رشد يُجادلونَ بالمنطقِ، كان الصوفيةُ مثل ابن عربي يكتبونَ: “الإلهُ هو الوجودُ كله”، وكأنما اللاهوتَ عندهم ليس علماً، بل ذوقاً وخبرةً روحيةً تذوبُ فيها الحدودُ بين الخالقِ والمخلوق.

أما اليوم، فها هو اللاهوتُ يعودُ إلى الواجهة مع أسئلةٍ جديدة: هل يُبرِّرُ اللاهوتُ العنفَ باسم الدين؟ كيف نُفسِّرُ الشرَّ في عالمٍ يُقال إنه مخلوقٌ لإلهٍ كامل؟ هذه الأسئلةُ تُثبتُ أن اللاهوتَ ليس تراثاً ميتاً، بل هو كالنهرِ الذي يُجدِّدُ ماءَه مع كلِّ عصر.


أسئلةٌ تطفو على السطح (استراحةُ القارئ)

  • سؤالٌ يلحُّ على المثقف: هل اللاهوتُ هو نفسُه علم الكلام؟
    الجواب: لو تحدثنا بلغةِ النحل، فالعسلُ واحدٌ لكنَّ الأزهارَ مختلفة. علمُ الكلامِ وُلد في رحمِ الإسلام ليدافعَ عن العقيدة، أما اللاهوتُ فهو مصطلحٌ أوسعُ، يضمُّ كلَّ محاولةٍ لفهمِ الإله، سواءٌ في المسيحية أو البوذية أو حتى في مختبراتِ العلماء.
  • سؤالٌ يهمُّ الفضوليين: هل يُوجد لاهوتٌ بدون إله؟
    الجواب: نعم! فحتى الذين يُنكرون وجودَ الإله، مثل بعض الفلاسفة المادييّن، يخوضون في “لاهوتٍ سلبي”، كأنما إنكارُ الإلهِ يحتاجُ إلى نفسِ الجهدِ الذي يتطلبه إثباتُه.

الخاتمة: اللاهوتُ… حوارٌ لا ينتهي

في النهاية، اللاهوتُ ليس كتاباً مُغلقاً، بل هو حوارٌ يدورُ منذ أن أدركَ الإنسانُ أنه صغيرٌ في كونٍ كبير. هو ذلك الصوتُ الذي يقولُ: “لا تكتفِ بالإيمانِ الأعمى، ولا تيأسْ إذا عجزَ العقلُ عن الإجابة”. ربما لهذا نجدُ اليومَ فلاسفةً مثل تشارلز تايلور يُعيدونَ تعريفَ اللاهوتِ في عصرِ العلم، وكأنما الكلمةَ خُلقت لتكونَ جسراً بين ما نعرفُ وما لا نعرف، بين الأرضِ والسماء.


لمن يريدُ الاستزادة:

إن أعجبك هذا المقال، فستجدُ على موقعنا كنوزاً عن “معنى الإنجيل“، أو رحلةً مع “معنى الكاثوليكية“. ولو أردتَ أن تُعمِّقَ البحث، فاطلعْ على كتاب اللاهوت العربي وأصول العنف الديني.


مُلاحظة الكاتب:
كلُّ كلمةٍ هنا كُتبتْ بعد تمحيصٍ في مراجعَ موثوقةٍ، لكني أدعوكَ ألا تأخذَها كحقائقَ مُطلقة، بل كبدايةٍ لرحلةِ بحثٍ خاصةٍ بك. فالحقيقةُ، مثل اللاهوت، تُحبُّ أن تُطارَدَ ولا تُمسَكَ.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى