المصطلحات

معنى الصليب: رحلةٌ في أعماق التاريخِ والإنسانِ

أتَعرفُ هذا الشكلَ الذي يَتقاطعُ فيهِ الخطانِ: أحدهما يَصعدُ نحو السماءِ، والآخرُ يَمتدُّ على الأرضِ؟ إنَّه الصليبُ، ذلك الرمزُ الذي ما انفكَّ يُحيِّرُ العقلَ ويَستفزُّ الروحَ منذُ أقدمِ العصورِ. لقد كانَ أداةً للعقابِ القاسي في يدِ القياصرةِ الرومانِ، ثمَّ صارَ أيقونةً تُنقشُ على جبينِ الإيمانِ. فكيفَ تحوَّلَ الصليبُ من مَشنَقةٍ للمجرمينَ إلى مَنجاةٍ للقلوبِ؟ وكيفَ استطاعَ هذا الشكلُ البسيطُ أنْ يحملَ في ثناياهِ أفراحَ الأممِ وآلامَها؟
هذا ما سنسبرُ غوره في رحلةٍ نَغوصُ فيها إلى جذورِ الكلمةِ، ونَستنطقُ التاريخَ ليكشفَ لنا عن أسرارِ تحولاتِ هذا الرمزِ العجيبِ، من مصرَ الفرعونيةِ إلى أوروبا المسيحيةِ، ومن معابدِ الهندِ إلى صَروحِ العلمِ الحديثِ.


الفصل الأول: أصلُ الكلمةِ.. لغةُ الدمِ تُنطقُ بالحروفِ

إنَّ كلمةَ “صليب” في العربيةِ تَحمِلُ في حروفِها نَغمةَ التاريخِ الصارخِ، فهيَ من الجذرِ “صَلَبَ”، الذي يَحمِلُ في طياتِه معاني الشدةِ والقسوةِ.

  • في العربيةِ القديمةِ: كانَ “الصَّلبُ” يعني تعليقَ الإنسانِ على خشبةٍ حتى الموتِ، وكأنَّ الحروفَ نفسَها تَئنُّ من وَطأةِ الذكرى.
  • في أخواتِها من اللغاتِ الساميةِ: فالعبريةُ تُسميه “تسيلاف” (צלב)، والسريانيةُ “صليبًا”، وكأنَّ الألسنةَ جميعَها تَتحدَّثُ بلغةِ الألمِ نفسِها.
  • لَطخةُ التاريخِ الساخرةُ: لقد كانَ الصليبُ في القرنِ الأولِ الميلاديِّ أداةَ إعدامٍ للعبيدِ والثوارِ، حتى إذا انتصفَ الليلُ التاريخيُّ، وأشرقَ فجرُ الإمبراطورِ قسطنطينَ، تحوَّلَ الصليبُ إلى شعارٍ للمجدِ! فهل كانَ هذا التحولُ انتصارًا للروحِ أم سخريةً من صَنيعِ الزمنِ؟

الفصل الثاني: الأديانُ تُناجي الصليبَ.. بينَ الموتِ والخلودِ

1. المسيحيةُ: دمٌ على خشبةٍ يَصنعُ ملحمةَ الخلاصِ

هنا، حيثُ تلتقي المأساةُ بالانتصارِ، يَصيرُ الصليبُ قلبَ العالمِ المسيحيِّ. فحينَ صُلبَ المسيحُ – في المعتقدِ المسيحيِّ – لم يكنْ ذلكَ سقوطًا، بل كانَ فداءً، وكأنَّ الخشبةَ التي نَزَفَتْ دمَهُ صارتْ جسرًا يعبرُ عليهِ المؤمنونَ من ظلامِ الخطيئةِ إلى نورِ الغفرانِ.

  • أسرارُ الأشكالِ:
  • الصليبُ اللاتينيُّ: كخيطٍ من نورٍ يصلُ الأرضَ بالسماءِ.
  • الصليبُ الأرثوذكسيُّ: تعلوهُ شرطةٌ ثالثةٌ تَذكرُ باللوحةِ التي كُتبَ عليها “ملكُ اليهودِ”، كأنَّها صرخةٌ في وجهِ الظلمِ.
  • الصليبُ القبطيُّ: تزينُه حلقةٌ كإكليلِ مجدٍ، تَهمسُ بأنَّ الموتَ ليسَ نهايةً.

2. مصرُ القديمةُ: صليبُ “العنخِ”.. هبةُ الآلهةِ لمن يَطلبُ الخلودَ

قبلَ أنْ تَسمعَ أوروبا باسمِ المسيحِ بآلافِ السنينِ، رفعَ المصريونَ صليبَ “العنخِ”، وهوَ شكلٌ يَجمَعُ بينَ الصليبِ وحلقةِ الحياةِ. كانَ الكهنةُ يَمسكونَهُ كأنَّهم يَمسكونَ بالخلودِ نفسِه، وكأنَّ أوزيريسَ إلهَ الموتى يُعلِّمُ البشرَ أنَّ الموتَ بابٌ لا سِجنٌ.

3. الهندُ: الصليبُ المعقوفُ.. شمسٌ تشرقُ من بينِ ركامِ الكراهيةِ

ذلكَ الرمزُ الذي شوَّهَهُ هتلرُ – السواسيتيكا – كانَ في الأصلِ شعارًا للرفاهيةِ في الهندوسيةِ، يُرسمُ على معابدِ بوذا كإشارةٍ إلى دورةِ الحياةِ التي لا تتوقفُ. فهل يُصلحُ الزمنُ ما أفسدَتْهُ أيدي البشرِ؟

4. أساطيرُ الشمالِ: مطرقةُ الإلهِ “ثور”.. صليبٌ يصنعُ الرعدَ

حينَ كانَ الإسكندنافيونَ الأوائلُ يَرسمونَ مطرقةَ الإلهِ “ثور” – التي تشبهُ الصليبَ – كانوا يَعتقدونَ أنَّها تَحميهم من الشياطينِ. فها هوَ الصليبُ هنا سلاحٌ إلهيٌّ، لا أداةُ عذابٍ!


الفصل الثالث: الصليبُ خارجَ المذبحِ.. حينَ يَلعبُ الفنُّ والسياسةُ بالقداسةِ

في الفنِّ: من ريشةِ عصرِ النهضةِ إلى شاشةِ السينما

  • مايكل أنجلو: في لوحةِ “القيامةِ”، جعلَ من الصليبِ سُلَّمًا يَصعدُ عليهِ المسيحُ من ظلمةِ القبرِ إلى نورِ السماواتِ.
  • السينما الحديثةُ: في فيلمِ “المنجد”، يظهرُ الصليبُ مقلوبًا، كإشارةٍ إلى انهيارِ القيمِ، وكأنَّ الفنَّ يُحذِّرُنا: “إيَّاكم أنْ تَقلبوا الرموزَ رأسًا على عقبٍ!”

في السياسةِ: الرمزُ يَخضعُ لإرادةِ القوةِ

  • الصليبُ الأحمرُ: وُلدَ شعارًا للرحمةِ، لكنَّهُ في ساحاتِ الحربِ صارَ أحيانًا هدفًا للرصاصِ!
  • أعلامُ الدولِ: الصليبُ في علمِ السويدِ نزلَ من السماءِ – كما يَزعمونَ – في رؤيا للملكِ، أما صليبُ سويسرا فصارَ رمزًا للحيادِ، وكأنَّ الحيادَ نفسه يحتاجُ إلى خشبةِ صليبٍ!

في علمِ النفسِ: خطٌ أفقيٌّ يَحملُ الإنسانَ، وعموديٌّ يَصلهُ بالكونِ

قالَ كارل يونغ: “الصليبُ هوَ لقاءُ الوعيِ بالإلهِ”، فالخطُّ الأفقيُّ هوَ حياتُنا الأرضيةُ، والعموديُّ هوَ الحقيقةُ المطلقةُ. أما فرويدُ فقد رأى في الصليبِ صورةَ الصراعِ بينَ الرغبةِ والمنعِ، وكأنَّ كلَّ إنسانٍ مَصلوبٌ على خشبةِ تناقضاتِه.


الفصل الرابع: محطاتٌ تاريخيةٌ.. كيفَ صاغَ البشرُ مصيرَ الرمزِ؟

  • القرنُ الرابعُ قبل الميلادِ: الإسكندرُ الأكبرُ يَصلبُ ألفًا من أهالي صورَ، ليكتبَ أولَ فصلٍ في سفرِ الصليبِ كأداةِ بطشٍ.
  • القرنُ الرابعُ الميلاديُّ: قسطنطينُ يرى في المنامِ صليبًا من نورٍ، فيَحملهُ شعارًا، وينتصرُ، فيَفتحُ بابًا جديدًا للرمزِ.
  • القرنُ العشرون: الصليبُ المعقوفُ يُختطفُ من معابدِ الهندِ ليصيرَ شعارًا للعنصريةِ، وكأنَّ التاريخَ يُعيدُ نفسَ المأساةِ بأقنعةٍ مختلفةٍ!

الخاتمة: هل نَستحقُ نحنُ البشرُ هذا الرمزَ؟

أيُّها القارئُ الكريمُ، إنَّ الصليبَ ليسَ حكرًا على دينٍ أو عصرٍ، بل هو مرآةٌ تُظهرُ تناقضَ الإنسانِ العجيبِ: قادرٌ على أنْ يَصنعَ من أداةِ الموتِ رمزَ الحياةِ، ومن أداةِ الكراهيةِ شعارَ المحبةِ. وكما قالَ الفيلسوفُ الفرنسيُّ رينيه جيرار:
“الصليبُ يُذكِّرنا بأنَّ العنفَ جُزءٌ من تاريخِنا، لكنَّنا نستطيعُ – إذا شئنا – أنْ نَصنعَ من أدواتِهِ جسورًا للغفرانِ.”
فهل نَصنعُ نحنُ من صلبانِ عصرِنا – الماديةِ والافتراضيةِ – رموزًا للخلاصِ، أم نَتركُها أدواتٍ للصلبِ؟


أسئلةٌ تَطلبُ التأملَ:

  • إذا كانَ الصليبُ الفرعونيُّ (العنخُ) يرمزُ للحياةِ، فهل يلتقي مع الصليبِ المسيحيِّ في معنى الخلودِ؟
  • كيفَ يُمكنُ لرمزٍ مقدسٍ أنْ يتحولَ إلى أداةِ صراعٍ، كما حدثَ مع الصليبِ المعقوفِ؟
  • تخيلْ لو لم يَرَ قسطنطينُ الصليبَ في منامِه، كيفَ كانَ سيختلفُ تاريخُ العالمِ؟

مراجعُ استندَ إليها المقالُ:


هكذا نكونُ قد أرخينا للصليبِ، لا كخشبةٍ ميتةٍ، بل كشاهدٍ حيٍّ على تحولاتِ الروحِ الإنسانيةِ، من الظلامِ إلى النورِ، ومن القسوةِ إلى الإيمانِ.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى