معنى الشعبوية: جذورها التاريخية، تحولاتها السياسية، وخطورتها

هل تذكر ذلك الزعيم السياسي الذي يلهب حماس الجماهير بخطاباته النارية عن “محاربة الفساد” و”إنقاذ الوطن”، لكنه يختفي بمجرد وصوله إلى السلطة؟ أو تلك الحركات التي تتحدث باسم “صوت الشعب” بينما ترفض أي رأي مخالف؟ هذه ليست مجرد صدفة، بل هي جوهر الشعبوية، مصطلحٌ تحوَّل من وصفٍ لحركات اجتماعية نبيلة إلى اتهامٍ سياسي يُلقى على كل من يغازل المشاعر دون عقلانية.
في هذا المقال، لن نكتفي بتعريف المصطلح، بل سنغوص في أصوله اللاتينية، ونكشف كيف استُخدم كـ”فخ” سياسي عبر التاريخ، ولماذا يُعتبر اليوم أحد أخطر أدوات التلاعب بالجماهير، خاصة في العالم العربي.
1. الأصل اللاتيني: عندما كان “الشعب” ثورة حقيقية
كلمة الشعبوية (Populism) مشتقة من الكلمة اللاتينية Populus، وتعني حرفيًّا “الشعب”. لكن هذه الترجمة البسيطة تخفي تحتها صراعًا تاريخيًّا مريرًا:
- في نهاية القرن الـ19، ظهر في الولايات المتحدة حزب الشعب (People’s Party)، الذي قاده مزارعون وعمال رفضوا سيطرة النخب الصناعية والبنوك. كان شعارهم: “أرض للفلاحين، عدالة للعمال”، ونجحوا في فرض إصلاحات مهمة مثل الضرائب التصاعدية.
- في روسيا القيصرية، انطلقت حركة النارودنيك (أي “أصدقاء الشعب”)، التي آمنت بأن الفلاحين قادرون على إسقاط النظام الإقطاعي لو حصلوا على الدعم.
هنا، كانت الشعبوية تعني تمردًا على الظلم، لكنَّ المصطلح بدأ يتشوه مع الوقت. ففي القرن الـ20، حوَّلت الأنظمة الديكتاتورية الشعبوية إلى أداة للسيطرة، مثل أدولف هتلر الذي ادَّعى تمثيل “الإرادة الحقيقية للشعب الألماني” بينما كان يبيد المعارضين!
2. المعنى السياسي: بين التمكين والتضليل
الشعبوية اليوم ليست مجرد “حب للشعب”، بل هي استراتيجية ذكية تعتمد على تقسيم المجتمع إلى معسكرين:
- الشعب النقي: تُصوِّره الشعبوية ككتلة متجانسة من المظلومين الأطهار.
- النخبة الفاسدة: تشمل كل من يعارض الخطاب الشعبوي، سواء كانوا سياسيين أو إعلاميين أو حتى مثقفين.
لكن المفارقة أن الشعبوية قد تكون بنَّاءة أو هدَّامة حسب سياقها:
- الجانب الإيجابي: في أمريكا اللاتينية، استخدمها هوغو تشافيز في فنزويلا لتمكين الفقراء عبر برامج صحية وتعليمية مدعومة بثروة النفط.
- الجانب السلبي: في أوروبا، تستغل أحزاب اليمين المتطرف مثل “الجبهة الوطنية” في فرنسا مخاوف المواطنين من الهجرة، مُروجين لشعارات مثل “فرنسا للفرنسيين” دون حلول واقعية.
3. أدوات الزعيم الشعبوي: كيف يسرق العواطف؟
تحليل خطابات الشعبويين يكشف استخدامهم لثلاث أدوات رئيسية:
- العدو المشترك: سواء كان “الفساد” أو “الخونة” أو “الأجانب”، يُختزل كل مشاكل المجتمع في عدوٍ واحد لتحقيق الوحدة الوهمية.
- الوعود الخيالية: مثل إلغاء الفقر بين عشية وضحاها، أو استعادة أمجاد الماضي (مشروع “جعل أمريكا عظيمة مجددًا” لدونالد ترامب).
- رفض التعددية: أي صوت معارض يُوصم بأنه “خائن للنخبة”، حتى لو كان خبيرًا اقتصاديًّا أو أكاديميًّا.
4. الشعبوية في العالم العربي: من الربيع العربي إلى خطابات “محاربة الفساد”
بعد الربيع العربي 2011، برزت الشعبوية كسلاح ذي حدين:
- الجانب التحرري: شعارات مثل “عيش، حرية، كرامة إنسانية” في مصر جسَّدت مطالب حقيقية للطبقات المهمشة.
- الجانب الاستغلالي: بعض الحركات السياسية حوَّلت الخطاب الشعبوي إلى وعود وهمية. مثال: سياسيون يرفعون شعار “محاربة الفساد” خلال الانتخابات، ثم يتجاهلون الإصلاحات بمجرد الفوز.
الأخطر هو توظيف الهوية الدينية أو الطائفية كأداة شعبوية. ففي العراق مثلًا، تستغل بعض الأحزاب الخطاب الطائفي لتعزيز الولاءات، دون تقديم حلول لمشاكل البنية التحتية أو البطالة.
5. لماذا يجب أن نقلق من الشعبوية؟
الشعبوية كالنار: قد تدفئك، لكنها قادرة على حرق كل شيء!
- تدمير الحوار العقلاني: عندما يُختزل النقاش في “معسكر الخير” vs “معسكر الشر”، تُقتل أي إمكانية لحلول وسطى.
- تغذية الاستبداد: الزعيم الشعبوي يطلب من الشعب “التفويض المطلق” لمحاربة النخبة، مما يمهد لديكتاتورية جديدة.
- انهيار الثقة في المؤسسات: تكرار اتهام الإعلام والقضاء بالفساد دون دليل يُفقد الناس إيمانهم بالدولة ذاتها.
الخاتمة: الشعبوية… هل هي مرض أم دواء؟
الجواب يعتمد على النية والأدوات:
- إذا كانت الشعبوية تعني إعطاء صوت للفئات المهمشة عبر برامج واقعية، فهي خطوة نحو العدالة.
- إذا تحولت إلى خطاب كراهية ووعود فارغة، فهي قنبلة موقوتة.
قبل أن تنخدع بالخطاب الشعبوي، اسأل:
- هل يقدّم هذا الزعيم حلولًا عملية أم شعارات جوفاء؟
- هل يعترف بالاختلافات أم يصور المجتمع ككتلة واحدة؟
- هل يستهدف بناء مؤسسات أم يطلب الولاء الأعمى لشخصه؟
مراجع للتوسع (للمهتمين):
- كتاب “ما الشعبوية؟” لـ جان فيرنر مولر.
- دراسة “الشعبوية والحركات الاجتماعية في أمريكا اللاتينية” من إعداد جامعة هارفارد.
- تقرير “الخطاب الشعبوي في العالم العربي” الصادر عن مركز كارنيغي للشرق الأوسط.