المصطلحات

معنى الذاريات: تفسير شامل لأصل الكلمة و دلالاتها في القرآن

ما الذي يختبئ خلف كلمة “الذاريات”؟ هل هي رياحٌ عاتية تذرُو التراب في الصحراء، أم ملائكةٌ تُدبِّر أمور الكون بإذن الله؟ ولماذا أقسم الله بها في مطلع سورة الذاريات؟
هذه الأسئلة ليست مجرد استفهاماتٍ عابرة، بل هي مفاتيحٌ لفهم عالَمٍ قرآنيٍّ مدهش، حيث تلتقي اللغة بأسرارها، والتفسير بحكمته، والعلم بمنطقه. في هذا المقال، سنسير معًا في رحلةٍ نكشف فيها أصل الكلمة، ونغوص في تفسير السورة، ونتأمل دلالاتها البلاغية والعلمية، لنصل إلى فهمٍ عميقٍ يجمع بين دقة المعلومة وجمال الطرح.


I: الذاريات في أحضان اللغة

جذر الكلمة: ماذا يعني “ذَرَى”؟

كلمة “الذاريات” مشتقة من الفعل “ذَرَى”، الذي يحمل في طياته معنيين رئيسيين:

  1. نَشْر الشيء وتفريقه، كالرياح التي تَذرو الترابَ في الفلاة، فتُبعثره في كل اتجاه.
  2. التكرار أو المبالغة في الفعل، كما في قول العرب: “ذَرَتِ الريحُ السحابَ”، أي دفعته بقوةٍ متكررة.

وهنا يظهر جمال اللغة العربية؛ فالجذر الواحد يُخرج معانٍ متشعبة، كشجرةٍ باسقةٍ تتفرع منها أغصانُ الحكمة. فكلمة “ذَرْوَة” (أعلى الجبل) تأتي من نفس الجذر، كأنها تُذكِّرنا بأن التفرقةَ والنشرَ قد يصلان إلى القمة!

“ذروا” في القرآن: أكثر من مجرد رياح!

ورد الفعل “ذَرَى” في القرآن في سياقاتٍ تدعو للتأمل، مثل قوله تعالى: ﴿وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا﴾ (الذاريات: 1). هنا، اختلف المفسرون:

  • الرياح: فهي تذرو السحابَ لتمطره، أو الترابَ لتبعثره.
  • الملائكة: فهم يذرون الأنفسَ من الأجساد عند الموت، أو يذرون الأعمالَ إلى السماء.

هذا الاختلاف ليس تناقضًا، بل هو ثراءٌ في الدلالة، كضوء الشمس الذي ينكسر إلى ألوانٍ متعددة.


II: سورة الذاريات… حين يقسم الله بالخلق

لماذا سُميت السورة بهذا الاسم؟

اختُلف في سبب التسمية، لكن الرأي الغالب أن الآية الأولى ﴿وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا﴾ هي التي أعطَتِ السورةَ هويتها، تمامًا كما يُسمى الإنسان باسمه الأول.

محاور السورة الرئيسية: جدول توضيحي

الآياتالمحورالغاية
1-6القسم بالظواهر الكونيةلفت الانتباه إلى عظمة الخالق وقدرته.
7-23قصص الأنبياءتأكيد صدق الرسل وعاقبة التكذيب.
24-60الحديث عن البعث والجزاءترسيخ الإيمان باليوم الآخر وعدل الله.

تفسير ابن كثير: بين الرياح والملائكة

يرى ابن كثير أن “الذاريات” هي الرياح التي تذرو السحابَ فتُنشئ المطر، أو تذرو الترابَ فتُحيي الأرض الميتة. أما “الحاملات وقرًا” فهي السحب الثقيلة التي تحمل الماءَ، و”الجاريات” هي السفنُ التي تجري في البحر.
لكنه لا ينفي رأيَ من قال إن الذاريات ملائكةٌ تُدبِّر الكون، لأن اللغة تحتمل المعنيين. وهذا التوازن في التفسير يُظهر عمقَ ابن كثير وحكمتَه.


III: الذاريات بين البلاغة والعلم

الجناس: إيقاعٌ كوني متناغم

لاحظوا هذا التناسق في أوائل السورة:

  • ﴿وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا﴾
  • ﴿فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا﴾
  • ﴿فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا﴾

هذا الجناس ليس زينةً لفظيةً فحسب، بل هو تعبيرٌ عن انسجام الكون في تدبيره، كأن كل مخلوقٍ يؤدي دوره بإتقان.

“والسماء ذات الحبك”… حقيقة علمية أم مجاز بلاغي؟

قال تعالى: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ﴾ (الذاريات: 7).

  • التفسير البلاغي: الحبك هي الطرقُ المحكمة، كالنسيج المُحكم.
  • التفسير العلمي: يشبه العلماء اليوم “الحبك” بالشبكة الكونية (Cosmic Web)، وهي خيوطٌ مجريةٌ مترابطةٌ كالنسيج.

هذا التطابق بين القرآن والعلم الحديث ليس مصادفةً، بل هو دليلٌ على أن القرآن يخاطب كل العصور.


IV: الذاريات في منظور المذاهب الإسلامية

رأي الشيعة: الملائكة مُدبِّرات الأمر

يُفسر بعض علماء الشيعة “الذاريات” بأنها الملائكة الموكلة بتدبير الرياح والأمطار، مستندين إلى رواياتٍ عن الأئمة. ففي تفسير الميزان للطباطبائي: “الذاريات هم الملائكة الموكلون بالرياح”.
هذا الرأي يُظهر أن الاختلاف في التفسير ليس خلافًا جوهريًا، بل هو تنوعٌ في فهم النص، كألوان الزهرة الواحدة.


V: أسئلة شائعة… وأجوبة مُوثَّقة

1. ما معنى ” ذَرْنِي” في سورة الذاريات؟

العبارة الصحيحة هي ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾ (المدثر: 11)، وهي ليست في سورة الذاريات، لكنها تتحدث عن تهديد الله للمكذبين بأن يتركهم وشأنهم ليُعذَّبوا.

2. هل الذاريات مرتبطة بالرياح فقط؟

لا، فبعض المفسرين يرون أنها تشمل الرياحَ والملائكةَ معًا، لأن القسم في القرآن غالبًا ما يكون بأمورٍ عظيمةٍ متنوعة.


VI: لمحات تاريخية وعلمية

سبب نزول السورة: درسٌ للمكذبين

نزلت سورة الذاريات في مكة، لتُذكِّر المشركين بقدرة الله من خلال قصص الأنبياء، وكأنها تقول لهم: “ها هم الأمم السابقة كذبوا فدمَّرهم الله، فاتعظوا!”

حقائق عددية عن السورة

  • عدد آياتها: 60 آية.
  • ترتيبها في المصحف: السورة 51.
  • نزلت بعد سورة: الأحقاف.

الخاتمة: الذاريات… دعوة للتأمل

ليست “الذاريات” مجرد كلمةٍ في القرآن، بل هي نافذةٌ نطل منها على عظمة الخالق. إنها تذكرنا أن الرياح التي نراها عشوائيةً، والسماء التي نُحدِّق فيها بلا اكتراث، هي في الحقيقة لوحةٌ إلهيةٌ محكمة. فهل نُدرك دلالاتها؟


مراجع المقال

  1. تفسير القرآن العظيم لابن كثير.
  2. الميزان في تفسير القرآن للطباطبائي.
  3. لسان العرب لابن منظور.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى