المصطلحات

في أي عام فرض الصيام على المسلمين؟

لا تُختزل كلمةُ “الصيام” في حروفِها، بل تَحملُ في ثناياها نبضًا روحيًّا يربطُ الأرضَ بالسماء. فهي من الجذرِ “صَوَمَ”، الذي يعني الإمساكَ عن الكلامِ أو الحركةِ أو الشهوةِ، لكنَّ الشرعَ أضفى عليها معنى أعمق: إمساكٌ عن الطعامِ والشرابِ والجماعِ، من طلوعِ الفجرِ إلى غروبِ الشمسِ، بنيةٍ خالصةٍ للهِ. وكأنَّ اللغةَ هنا تلتقي بالدينِ في نقطةِ التطهيرِ؛ فالصيامُ ليس جوعًا للجسدِ، بل نقاءً للنفسِ، وحبلًا يشدُّ المسلمينَ عبرَ القرونِ إلى غايةٍ واحدةٍ: التقوى.

هذه العبادةُ، التي قد تبدو بسيطةً في ظاهرِها، تحملُ في باطنِها تاريخًا من التشريعِ المتدرجِ، وحكمةً إلهيةً تَختبئُ في تفاصيلِها. فمتى كتبَ اللهُ على المسلمينَ هذا الركنَ؟ وكيف تحوَّلَ من عادةٍ إلى فريضةٍ؟ هذا ما سنسبرُ غورَهُ في رحلةٍ نستعيدُ فيها ذاكرةَ الزمنِ الأولِ.


الفصل الأول: الزمنُ الذي انحنى للوحيِ.. تشريعُ الصيامِ في السنةِ الثانيةِ للهجرةِ

السياقُ التاريخيُّ: المدينةُ تُعيدُ تشكيلَ الهويةِ

لم تكُنِ المدينةُ المنورةُ مجرَّدَ ملاذٍ آمنٍ للنبيِّ ﷺ وأصحابِهِ، بل كانت ورشةً لبناءِ أمةٍ جديدةٍ. في ذلكَ الجوِّ المشحونِ بالصراعِ مع قريشٍ، والتحالفِ مع الأوسِ والخزرجِ، بدأت ملامحُ التشريعِ الإسلاميِّ تتشكَّلُ كجدارٍ يحمي كيانَ المسلمينَ الروحيَّ. وفي شعبانَ من السنةِ الثانيةِ للهجرةِ، نزلَ الوحيُ بآيةٍ غيَّرت مصيرَ الأمةِ:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 183).

هنا، في خضمِّ الاستعدادِ لغزوةِ بدرٍ الكبرى (التي وقعت في رمضانَ نفسِهِ)، دخلَ الصيامُ حيزَ الفريضةِ. فكأنَّ اللهَ أرادَ أن يربطَ بين انتصارِ الدماءِ وانتصارِ الأرواحِ.

لماذا السنةُ الثانيةُ تحديدًا؟

لأنَّ التشريعاتِ الكبرى تحتاجُ إلى مجتمعٍ متماسكٍ، وقد استقرَّ المسلمونَ في المدينةِ، وتأسستْ دولةُ الإسلامِ، فكان الوقتُ مناسبًا لفرضِ ركنٍ يعمقُ الوحدةَ. فالصيامُ، بشهرِهِ الواحدِ، حوَّلَ المسلمينَ إلى جسدٍ واحدٍ يشعرُ الغنيُّ فيه بألمِ الجوعِ الذي يعيشُهُ الفقيرُ يوميًّا.


الفصل الثاني: الأسئلةُ التي تُحركُ الذاكرةَ.. تفاصيلُ قد تُدهشُك

1. “كيف كان الصيامُ قبلَ أن يُفرضَ في رمضانَ؟”

قبلَ السنةِ الثانيةِ للهجرةِ، كان المسلمونَ يصومونَ يومَ عاشوراءَ (العاشرِ من محرمَ)، اقتداءً بيهودِ المدينةِ الذينَ كانوا يصومونَهُ فرحًا بنجاةِ موسى مِن فرعونَ. لكنَّ النبيَّ ﷺ أرادَ تمييزَ الأمةِ، فلمَّا فُرضَ رمضانُ، قالَ:

«مَنْ شَاءَ صَامَهُ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ» (رواه البخاري).

لكنَّ هذا النسخَ لم يكنْ إلغاءً، بل تحويلاً لمسارِ العبادةِ مِن تقليدٍ إلى تشريعٍ ربانيٍّ.

2. “هل صامَ المسلمونَ 30 يومًا منذُ البدايةِ؟”

نعم، فقد ارتبطَ الصيامُ بالتقويمِ القمريِّ، وشهرُ رمضانَ كغيرهِ من الأشهرِ القمريةِ (29 أو 30 يومًا). لكنَّ السؤالَ الأعمقَ: لماذا اختيرَ الشهرُ القمريُّ دونَ الشمسيِّ؟ لأنَّ الهلالَ علامةٌ مرئيةٌ للجميعِ، تجعلُ الصيامَ وحدةً زمنيةً لا تختلفُ بينَ الصحراءِ والجبلِ، فالفارقُ بينَ رؤيةِ الهلالِ هنا أو هناكَ يسيرٌ.

3. “ماذا لو أَفطرَ أحدُهم في الماضي؟”

في البدايةِ، كانَ التشريعُ مرنًا:

  • مَن لم يستطعِ الصيامَ (كالكبيرِ أو المريضِ) فإطعامُ مسكينٍ (عن كلِّ يومٍ).
  • لكنَّ بعضَ الصحابةِ، كرجلٍ مِن بني غفارَ، ضاقَ ذرعًا بالصيامِ، فأفطرَ وأطعمَ، فلما شاعَ أمرُهُ، نزلتْ آيةُ:

﴿وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ (البقرة: 184)،
ليصبحَ الصيامُ واجبًا على القادرِ، مع بقاءِ الرخصةِ للعاجزِ.


الفصل الثالث: اللحظاتُ الأولى.. كيفَ صامَ النبيُّ ﷺ وأصحابُهُ؟

رمضانُ الأولُ: اختبارٌ للصبرِ

لم يكُنِ الصيامُ مجردَ امتناعٍ عن الطعامِ، بل تدريبًا على الانضباطِ. ففي رمضانَ سنةَ 2 هـ، صامَ النبيُّ ﷺ مع أصحابِهِ، لكنَّ بعضَ التفاصيلِ اختلفتْ:

  • السحورُ: لم يكُنْ مُتعارفًا عليهِ في الأيامِ الأولى، حتى نزلَ الأمرُ بهِ:

«تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً» (رواه البخاري).

  • الإفطارُ: كانوا يُفطرونَ على التمرِ والماءِ، وإذا لم يجدوا، نوى أحدُهم على صوتِ المؤذنِ، كما روتْ عائشةُ رضي الله عنها.

حادثةٌ غيرتْ تشريعًا!

ذاتَ يومٍ، أتى رجلٌ إلى النبيِّ ﷺ يرتجفُ خجلًا: “هلكتُ يا رسولَ اللهِ!”، فسألَهُ: «وما أهلككَ؟»، قالَ: “وقعتُ على امرأتي في نهارِ رمضانَ”. هنا نزلَ تشريعُ الكفارةِ (صيامُ شهرينِ متتابعينِ أو إطعامُ 60 مسكينًا)، ليكونَ درسًا في ضبطِ الشهواتِ.


جدولٌ زمنيٌّ: تشريعُ الصيامِ بينَ الماضي والحاضرِ

السنة الهجريةالحدثالتفاصيل
1 هـصيامُ عاشوراءَيومٌ واحدٌ (10 محرمَ)
2 هـفرضُ صيامِ رمضانَ30 يومًا مع زكاةِ الفطرِ
2 هـتعديلاتٌ فقهيةٌمنعُ الجماعِ نهارًا، تشريعُ القضاءِ والكفارةِ
3 هـتثبيتٌأصبحَ الصيامُ ركنًا لا جدالَ فيهِ

الفصل الرابع: فلسفةُ الثلاثينَ يومًا.. لماذا ليستْ عشرينَ أو أربعينَ؟

لو تأملنا العددَ “30”، لوجدناهُ رقمًا ذا دلالةٍ في الثقافاتِ القديمةِ:

  • التقويمُ القمريُّ: الشهرُ القمريُّ (29.5 يومًا)، فجُعِلَ 30 يومًا ضمانًا لاكتمالِهِ.
  • التربيةُ بالتكرارِ: يحتاجُ الإنسانُ إلى 21 يومًا لتعويدِ النفسِ على عادةٍ جديدةٍ، فـ30 يومًا تضمنُ رسوخَ التأثيرِ الروحيِّ.
  • الوحدةُ الكونيةُ: جعلُ الصيامِ مرتبطًا بظاهرةٍ فلكيةٍ (الهلال) يربطُ المسلمَ بالكونِ، فلا انفصالَ بين العبادةِ والطبيعةِ.

الخاتمة: الصيامُ.. حينَ يصيرُ الجوعُ نورًا

في كلِّ عامٍ، يعودُ رمضانُ ليذكرنا بأنَّ التشريعَ ليس مجردَ أوامرَ، بل حكايةُ حبٍّ بينَ الخالقِ والمخلوقِ. فمنذُ ذلكَ العامِ الثاني للهجرةِ، والمسلمونَ يصومونَ كما صامَ النبيُّ ﷺ، وكأنَّ الزمنَ يتوقفُ ليُعيدَنا إلى اللحظةِ الأولى: لحظةِ الوحيِ، التي حوَّلتْ تاريخَنا إلى عبادةٍ.

هذا هو الصيامُ: جسرٌ بينَ الماضي والحاضرِ، وبينَ الأرضِ والسماءِ. فهل نعبرُهُ؟.


مراجعُ المقالِ:

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى