تعريف القانون: نبض المجتمع بين الألفة والصرامة

القانون ليس حروفًا منقوشة على ورق، بل هو النهر الذي يحمل قيم العدل عبر العصور، فيروي ظمأ المجتمعات إلى الاستقرار. إنه ذاك الصوت الخفي الذي يهمس في أذن الحضارة: “هنا تبدأ الحرية، وحقوق الإنسان لا تُمس”. لكن كيف وُلدت هذه الكلمة؟ وكيف تحولت من فكرة مجردة إلى حجر أساس في بناء الأمم؟ دعنا نسير معًا في رحلة نكتشف فيها القانون من جذوره الأولى إلى ثماره الحديثة.
أصل الكلمة: من “العصا المستقيمة” إلى دستور الأمم
كلمة “القانون” تحمل في طياتها رحلة حضارية طويلة؛ ففي اليونان القديمة، حيث الفلسفة تُنحت كالتماثيل، وُلدت الكلمة من رحم “κανών” (kanon)، وتعني “العصا المستقيمة” التي يقاس بها الاستواء، كناية عن المبدأ الثابت الذي لا يحيد. ثم انتقلت إلى الفرس كـ“قانون”، لتدخل العربية في عصر الذهب العباسي، حين كانت بغداد جسرًا بين الشرق والغرب.
ولعل في هذا الانتقال عبر الحضارات إشارة إلى أن القانون، كالماء، لا وطن له، لكنه يكتسب طعم الأرض التي يمر عليها. ففي العربية، أصبح “القانون” يُطلق على النهج الثابت، سواء في الموسيقى (كالسلم الموسيقي) أو في الطبيعة (كقوانين نيوتن)، وكأن اللغة تؤكد أن النظام هو جوهر الكون.
التعريف: حين تلتقي الفلسفة بالواقع
إذا سألت الفيلسوف: “ما القانون؟” فسيقول لك: “هو صوت العقل الذي يعلو فوق رغبات الأفراد”. أما رجل الشارع فسيجيب: “هو ما يمنع جاري من التعدي على حديقتي”. بين هذين القطبين، ينبغي أن نبحث عن التعريف.
اصطلاحًا، القانون هو “مجموعة القواعد الملزمة التي تصدر عن إرادة الدولة، لتنظيم علاقات الأفراد، ووضع الحدود بين الحريات”. لكن هذا التعريف الجاف يكتسب ألوانًا حين ننظر إلى فروعه:
- القانون العام: هو ذاك الحاجز بين السلطة والمواطن، يحميك من تعسف الحاكم، كما في المادة ٤١ من الدستور المغربي التي تقيد صلاحيات الملك.
- القانون الخاص: هو لغة الحوار بين الأفراد، كالعقد الذي يربط البائع بالمشتري، مستندًا إلى قانون نابليون (1804) الذي لا يزال قلب التشريعات المدنية.
أما في التراث الإسلامي، فالقانون هو “الشريعة“، التي تجمع بين ثبات النصوص (كالقرآن) ومرونة الاجتهاد، كالقياس الذي استخدمه الإمام أبو حنيفة ليُخرج للأمة أحكامًا تلائم عصرها.
الخصائص: لماذا لا نستطيع العيش بدونه؟
لو كان القانون إنسانًا، لكان شخصيةً تجمع بين الحكمة والصلابة:
- العمومية: كالشمس التي تضيء على الجميع دون استثناء، فلا يعفي رئيس الدولة من غرامة مرور.
- الإلزام: إنه الابن الشرعي للسلطة، ففي عام 2023، أوقفت الشرطة الفرنسية 1500 شخص لخرقهم قانون التجمهر.
- الجزاء: هو الوجه الآخر للرحمة، فالسجن 10 سنوات لقاتل يُعيد التوازن الاجتماعي.
- التطور: كشجرة تتجدد أوراقها، فقوانين العمل الحديثة تضمن الآن إجازة أبوة في السويد، لم تكن موجودة قبل قرن.
الأنواع: تشريعات تُلبس ثياب الزمن
القانون كالملحمة الأدبية، له فصول متعددة:
- القانون العام:
- الدستوري: هو الوصي على المبادئ العليا، كالمادة 20 في النظام الأساسي للحكم السعودي التي تكفل التعليم المجاني.
- الجنائي: هو حارس القيم، ففي 2022، حكمت محكمة أمريكية على مجرم إلكتروني بالسجن 25 عامًا، كرسالة لمن يخترق حرمة الحياة الخاصة.
- القانون الخاص:
- المدني: هو شاعر العلاقات اليومية، ينظم الزواج والطلاق والميراث، مستلهمًا من “مجلة الأحكام العدلية” العثمانية (1876).
- التجاري: لغة الأسواق، فاتفاقية التجارة الحرة الأفريقية (2021) أنعشت اقتصاد 54 دولة.
- القانون الدولي: هو حلم الإنسانية بوحدة الضمير، فمحكمة العدل الدولية حكمت عام 2019 بمنع اليابان من صيد الحيتان المهددة بالانقراض.
التاريخ: من حجر حمورابي إلى الذكاء الاصطناعي
- الألفية الثانية قبل الميلاد: نُحتت شريعة حمورابي على حجر أسود، كتب عليها: “لتكن العقوبة بمقدار الجريمة”، فكانت أول محاولة لتحويل العدل من انتقام إلى ميزان.
- القرن السادس الميلادي: الإمبراطور جستنيان يُصدر “القانون المدني الروماني”، ليكون أساسًا لكل تشريعات أوروبا، وكأنه يقول: “الحضارة تُبنى بالقانون لا بالسيوف”.
- القرون الوسطى الإسلامية: فقهاء المالكية في قرطبة يضعون قواعد “العرف” كأحد مصادر التشريع، اعترافًا بأن القانون ابن بيئته.
- العصر الحديث: دستور جنوب أفريقيا (1996) يلغى الفصل العنصري، ليُثبت أن القانون قد يكون سلاح التغيير الأقوى.
أسئلة تتردد في زوايا العقل
- هل القانون ابن الطبقة المسيطرة؟
قد يبدو كذلك، لكن التاريخ يثبت أن الشعوب تنتزع حقوقها عبر القوانين، كقانون الإصلاح الزراعي في مصر (1952) الذي نقل الأرض من الإقطاعيين إلى الفلاحين. - ماذا لو تعارض القانون مع الضمير؟
هنا يظهر دور “العصيان المدني” كما فعل غاندي، لكن القانون الذكي يترك مساحات للتعديل، كإلغاء قوانين العبودية في الولايات المتحدة (1865). - كيف نضمن ألا يصبح القانون أداة قمع؟
الجواب في فصل السلطات، فالدستور الكويتي (1962) جعل البرلمان رقيبًا على الحكومة، وكأنه يقول: “القانون يجب أن يُحاسِب مَن يسنّه”.
الخاتمة: القانون.. ذلك الكائن الحي
القانون ليس وثيقةً مغبرة في أرشيف، بل هو كائن حي يتنفس مع أنفاس الشعوب. إنه الصورة الواقعية لضمير الإنسانية، الذي يتعلم من أخطائه، ويتطور كلما ارتقت الأخلاق. فكما قال الفيلسوف سقراط وهو يشرب السم احترامًا للقانون: “إن خرقت القانون اليوم، فمن يحميك غدًا؟”.
مراجع اعتمد عليها المقال:
- فلسفة القانون وإشكالياتها.
- أرشيف محكمة العدل الدولية .
- ماغنا كارتا.. أول دستور مكتوب في التاريخ الحديث.