تعريف الصوم لغة واصطلاحًا: رحلة في أعماق الكلمة والروح

كأنَّ الصومَ نهرٌ يجري بين ضفَّتَي الزمان والمكان، ضفَّةٌ من لغة العرب تروي أصول الكلمة ودلالاتها، وضفَّةٌ من شرع السماء تُجسِّد حكمةَ الامتناع عن الشهوات. فليس الصومُ مجرَّد جوعٍ يُقاس أو عطشٍ يُحسب، بل هو لقاءٌ بين الإرادة الإنسانية والإرادة الربانية، تُختبر فيه النفسُ وتُهذَّب. في هذا المقال، سنسبر أغوار تعريف الصوم لغة واصطلاحًا، مستعينين بضوء اللغة وهدي الشرع، لنجعل من هذه الرحلة معرفةً تُغذي العقل، وروحًا تُلامس القلب.
الفصل الأول: الصوم في اللغة.. جذور الكلمة وأسرارها
إذا أردنا أن نعرف الصومَ لغةً، فعلينا أن ننزل إلى أعماق التراث اللغوي، حيث تُخبئُ العربيةُ بين حروفها كنوزَ الدلالات. فـ“الصوم” مشتقٌّ من الفعل “صَامَ”، الذي يحمل في طياته معنى الإمساك والكفِّ، سواء أكان عن الكلام أم الطعام أم الحركة.
- في الشعر الجاهلي: يقول الأعشى:
وخيلٌ صيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمةٍ *** تحتَ العجاجِ وأخرى تَعْلُكُ اللُّجُما.
فالصوم هنا إمساكُ الخيل عن الجري، كأنها تُجاهدُ شهوةَ الحركة.
- في القرآن الكريم: يُذكر الصومُ بمعنى الكفِّ عن الكلام في قصة مريم: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا﴾ (مريم: 26)، فصومُها كان امتناعًا عن النطق، لا عن الطعام.
وهكذا، نرى أنَّ المعنى اللغويَّ للصوم يشبه بذرةً نابتةً في تربة اللغة، تمدُّ جذورها إلى كلِّ ما هو إمساكٌ وترك، حتى إذا جاء الشرعُ الإسلاميُّ، أضفى عليها روحًا جديدة، فصارت البذرةُ شجرةً مثمرةً بالعبادة.
الفصل الثاني: الصوم في الاصطلاح الشرعي.. رحلة بين المذاهب
إذا كان الصومُ لغةً إمساكًا مطلقًا، فإنَّ الشرعَ قيَّده بقيود الزمان والمكان والنية، فجعل منه عبادةً مُحكَمة. لكنَّ الفقهاء اختلفوا في تفصيل هذا التعريف، كلٌّ بحسب ما ارتآه من أدلة.
1. الحنفية: الإمساك عن ثلاث شهوات
يرى فقهاء الحنفية أن الصومَ “كفُّ البطن والفرج عن الشهوتين، مع النية” (بدائع الصنائع). فهم يُقيِّدون المفطرات بثلاثة: الأكل، الشرب، الجماع، مُستندين إلى قوله تعالى: ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ﴾ (البقرة: 187).
2. المالكية: الكفُّ عن كلِّ ما يناقض الحكمة
أما المالكية، فيوسِّعون دائرةَ المفطرات، فيقولون: الصومُ “الإمساك عن شهوتي البطن والفرج، وعن كلِّ ما يقوم مقامهما” (مواهب الجليل). فهم يرون أنَّ استنشاقَ البخور أو تعمُّدَ استنزال المنيَّ يُفطر، لأنَّه يُشبه الشهوةَ التي حَرَّمها الشرع.
3. الشافعية: الامتناع المُقيَّد بزمانٍ ومكان
ينظر الشافعية إلى الصوم على أنه “امتناعٌ مخصوصٌ عن مخصوص، في زمان مخصوص، من شخص مخصوص” (المجموع). فالمفطراتُ ليست محصورةً في الأكل والشرب، بل تشمل كلَّ ما يدخل الجوفَ، كقطرة الأنف أو الحقن الوريدية، إن وصلت إلى المعدة.
4. الحنابلة: النية.. شرطُ العبادة وروحُها
يؤكد الحنابلة على دور النية، فيعرِّفون الصومَ بأنه “الإمساك عن المفطرات مع تعمُّد النية” (كشاف القناع)، فلا يصحُّ الصومُ إلا بنيةٍ تُبيِّت القلبَ قبل الفجر، كأنها وقودٌ يُشعل مصباحَ العبادة.
الفصل الثالث: بين الصوم والصيام.. هل هما وجهان لعملةٍ واحدة؟
قد يسأل قارئٌ: ما الفرق بين “الصوم” و”الصيام”؟
- لغويًّا: هما مترادفان، فكلاهما يدلُّ على الإمساك.
- شرعًا: قد يُفرَّق بينهما، فـ”الصوم” يُطلق على الامتناع عن الكلام (كما في صوم مريم)، و”الصيام” على الامتناع عن الطعام (كما في صوم رمضان)، لكنَّ هذا التخصيصَ ليس قطعيًّا، فالكلمتان تتسعان ليشملا كلَّ إمساكٍ مُتعمَّد.
الفصل الرابع: ألفاظ الصوم في القرآن.. عِبَرٌ ودلالات
لم يقتصر القرآنُ على لفظ “الصوم” للتعبير عن هذه العبادة، بل تنوَّعت ألفاظه لتُعبِّر عن حِكَمها:
اللفظ القرآني | الآية | الدلالة |
---|---|---|
صيام | ﴿فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ﴾ (البقرة: 184) | الصوم ككفارةٍ عن الإفطار. |
صومًا | ﴿إِنِّي نَذَرْتُ صَوْمًا﴾ (مريم: 26) | الصوم عن الكلام. |
الصائمين | ﴿وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ﴾ (الأحزاب: 35) | ثواب الصائمين. |
الفصل الخامس: حكمة الصوم.. لماذا نُمسك؟
إذا سألتَ: ما الحكمة من الصوم؟ فالجوابُ يكمن في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 183). فالصومُ:
- مدرسةٌ للتقوى: يُعلِّم ضبطَ النفس عن الشهوات حتى في الخلوات.
- جسرٌ للتكافل: حين يجوع الغنيُّ يتذكَّرُ جوعَ الفقير.
- شفاءٌ للجسد: أثبت العلم الحديث أن الصومَ يُجدِّد الخلايا ويُطهِّر الجسمَ من السموم.
الفصل السادس: شروط الصوم وأركانه.. دليلٌ للمُكلَّف
لكي يكون الصومُ شرعيًّا، لا بدَّ من:
أولًا: الشروط
- الإسلام.
- البلوغ.
- القدرة على الصوم دون ضرر.
- النية (قبل الفجر عند المالكية، ويجوز حتى الفجر عند غيرهم).
ثانيًا: الأركان
- الإمساك عن المفطرات (من طلوع الفجر إلى غروب الشمس).
- النية (عند الحنابلة والحنفية).
ثالثًا: مُفطرات العصر الحديث
اختلف الفقهاء في أمورٍ لم تكن معروفةً قديمًا:
- الحقن الوريدية: تُفطر عند الشافعية إن وصلت إلى المعدة.
- قطرة العين: لا تُفطر عند الجمهور إلا إذا وصل طعمها إلى الحلق.
الأسئلة الشائعة: إضاءاتٌ سريعة
- ما تعريف الصوم عند المالكية؟
- هو الكفُّ عن شهوتي البطن والفرج، وكلِّ ما يقوم مقامهما، مع النية قبل الفجر.
- ما حكمة مشروعية الصوم؟
- تحقيق التقوى، وتذكير الإنسان بضعفه وحاجته إلى ربِّه.
- كيف يُقضى الصوم الفائت؟
- يصوم المسلم الأيام التي أفطرها متتابعةً أو متفرقة قبل رمضان التالي.
الخاتمة: الصوم.. عبادةٌ لا تنتهي عند المغرب
إنَّ الصومَ ليس طقسًا مؤقتًا ينتهي بغروب الشمس، بل هو ندبةٌ في جبين الإرادة الإنسانية، تذكرها دائمًا بأنَّها قادرةٌ على تجاوز شهوات الجسد لترتقيَ إلى ملكوت الروح. فمن عرف الصومَ لغةً، أدرك أنَّ الإمساكَ ليس حرمانًا، بل تحريرٌ من سلطان العادة. ومن عرفه شرعًا، رأى فيه مرآةً تعكسُ تواضعَ الإنسان أمام عظمة الخالق. وهكذا، يصير الصومُ جسرًا بين الأرض والسماء، وبين اللغة والشرع، وبين الجوعِ الظاهرِ والشبعِ الباطن.
مراجع المقال:
- القرآن الكريم.
- كتب المذاهب الأربعة: (بدائع الصنائع، مواهب الجليل، المجموع، كشاف القناع).
- الدراسات اللغوية: معجم مقاييس اللغة لابن فارس، لسان العرب لابن منظور.
- فسيولوجيا الصيام والأنظمة الغذائية العلاجية: نظرة إلى المستقبل.