تعريف الشيوعية: من الجذر اللغوي إلى الجدل الفكري

كيف تُولد الفكرة؟ وكيف تتحول الكلمة إلى زلزالٍ يهز أركان العالم؟ ها هنا تقف “الشيوعية” شاهداً على قوة الأحلام الإنسانية حين تتعانق مع الواقع فتخلق منه أسطورةً أو مأساة. ليست الشيوعية مجرد مصطلحٍ يمرُّ في الكتب، بل هي مرآةٌ تعكس أعمق صراعات الإنسان بين العدل والسلطة، بين الحلم والانهيار. في هذا المقال، نغوص في تعريف الشيوعية لا كحجرٍ ميتٍ في متحف التاريخ، بل كنهرٍ جارٍ يحمل في تياراته دماء الثوار، وهمسات الفلاسفة، وصخور التجارب التي تحطمت على صخرة الواقع.
الفصل الأول: أصل الكلمة.. حين تُولد الفكرة من رحم اللغة
لو عاد بنا الزمن إلى روما القديمة، حيث كانت كلمة “Communis” تُنطق كهمسةٍ بين الفلاسفة، لوجدناها تعني “المشترك” أو “ما يخص الجميع”. لكن الكلمات كالبذور، تُزرع في تربة التاريخ فتنمو حسب ظروف الأرض. في القرن التاسع عشر، حين كانت أوروبا تئنُّ تحت وطأة الثورة الصناعية، تحولت هذه الكلمة اللاتينية إلى شعارٍ يرفعه العمال الذين سُحقوا بين آلات المصانع وأطماع الرأسماليين.
هنا، في أحياء لندن البائسة، التقط كارل ماركس وفريدريك إنجلز هذه الكلمة، وحولاها إلى “بيان شيوعي” (1848)، فكانت الشرارة التي أضاءت طريق الثورة. لكن المدهش أن ماركس نفسه لم يستخدم كلمة “شيوعية” إلا نادراً، مفضلاً مصطلح “الاشتراكية العلمية”، فكيف تحولت الكلمة إلى عَلَمٍ يُرفع في ميادين موسكو وهافانا وبكين؟
الحكاية أن التاريخ يسرق الكلمات أحياناً، فيُحمّلها ما لا تحتمل. فالاشتراكية في الماركسية هي المرحلة الانتقالية، أما الشيوعية فهي المدينة الفاضلة التي تختفي فيها الدولة والمال والطبقات، لكن الواقع – كعادته – لم ينتظر طويلاً، فحمل الكلمة على ظهره قبل أن تكتمل أحلام الفلاسفة.
الفصل الثاني: مفهوم الشيوعية.. بين فلسفة ماركس ووهم اليوتوبيا
ما أقسى أن تتحول الفكرة إلى سلطة! هنا يبدأ مفهوم الشيوعية في التشقق مثل مرآةٍ كبيرة، ففي جانبها النظري تُرى صورة عالمٍ تسوده العدالة، حيث تُلغى الملكية الخاصة، وتذوب الفوارق بين الحاكم والمحكوم، ويصبح العمل حقاً للجميع وليس عبئاً على الكادحين. ماركس رأى أن هذا لن يتحقق إلا عبر ثورةٍ تقودها “البروليتاريا” (الطبقة العاملة)، لتسحق نظام الرأسمالية الذي – بحسبه – يحول الإنسان إلى سلعة.
لكن الكتب تختلف عن الواقع. فحين تحولت الشيوعية إلى نظامٍ في روسيا عام 1917، تحت قيادة لينين، تحولت “دكتاتورية البروليتاريا” – التي كانت مجرد مرحلة انتقالية في النظرية – إلى دكتاتورية الحزب الواحد، ثم إلى دكتاتورية الفرد. هنا يبرز التناقض الأكبر: كيف لفكرةٍ تدعو إلى المساواة أن تتحول إلى سجنٍ كبيرٍ تُسحق فيه الحريات باسم الجماهير؟
الفصل الثالث: دلالات الشيوعية.. حين تصطدم الأحلام بالتاريخ
لا تكتمل رحلتنا في معنى الشيوعية إلا بالوقوف على أطلال التجارب التي هزت القرن العشرين:
- الاتحاد السوفيتي: بدأ كأملٍ للعمال، وانتهى بإمبراطوريةٍ burocratism، حيث تحولت المساواة إلى فقرٍ عام، والثروة إلى امتيازٍ للنخبة.
- الصين الثورية: مزج ماو تسي تونغ بين الشيوعية والتراث الكونفوشيوسي، فكانت “القفزة العظيمة إلى الأمام” قفزةً إلى المجاعة، ثم تحولت الصين لاحقاً إلى رأسماليةٍ بوجهٍ شيوعي.
- كوبا: الجزيرة الصغيرة التي تحدت الولايات المتحدة، وحققت نجاحاتٍ في التعليم والصحة، لكنها ظلت أسيرة الحصار والشمولية.
لكن هل كل هذا يعني أن الشيوعية فشلت؟ المؤرخون يختلفون. ففي حين سقط جدار برلين، ما زال الفكر الماركسي يُدرس في الجامعات الغربية كأداةٍ لفهم صراع الطبقات، وما زال المثقفون أمثال سلافوي جيجك يرون في الشيوعية “الوحش الجميل” الذي قد ينهض من رماده لمواجهة أزمات الرأسمالية الحديثة.
الفصل الرابع: الشيوعية اليوم.. شبحٌ يعود أم ذكرى تُدفن؟
في عصر العولمة، حيث تُحكم السيطرة على العالم بواسطة شركات التكنولوجيا العملاقة، يعود مفهوم الشيوعية إلى الواجهة، لكن بثوبٍ جديد. فالشباب في الغرب الذين يرفعون شعارات “اشتراكية القرن الـ21” لا يحلمون بمصادرة المصانع، بل بإلغاء ديون التعليم، وتأمين العلاج المجاني.
حتى في الأدب والفن، نجد الشيوعية حاضرةً كرمزٍ للمقاومة. ففي رواية “1984” لجورج أورويل – رغم انتقادها للشمولية – تظل الفكرة حيةً كتحذيرٍ من طغيان السلطة. أما في فيلم “The Hunger Games”، فالمقاومة ضد نظامٍ قمعي تذكرنا بخطابات الثوار الشيوعيين.
الخاتمة: هل تُصلح الشيوعية عالمنا أم نصلح نحن فهمنا لها؟
الدرس الأكبر الذي تقدمه لنا الشيوعية هو أن الأفكار العظيمة كالريح، قد تنعش النفوس أو تدمر السفن، حسب أيدي من تقع. تعريف الشيوعية ليس حكماً نطلقه على الماضي، بل سؤالٌ نوجهه للمستقبل: كيف نصنع نظاماً يحقق العدل دون أن يسحق الحرية؟ كيف نوازن بين حلم الفرد وحلم الجماعة؟
ربما تكون الإجابة أن الشيوعية – ككل الأحلام – تحتاج إلى بصيرةٍ تمنعها من التحول إلى كابوس. لكنها تظل، رغم كل شيء، شهادةً على أن الإنسان قادرٌ على أن يحلم بعالمٍ أفضل، حتى لو سقط الحلم في الطريق.
المصادر :
مسودّة البيان الشيوعي تعاليم الماركسية