المصطلحات

تعريف السنة: تشريح المصطلح من اللغة إلى مدارس الفقه

ليست السنة مجرد كلمة تتردد في أروقة المساجد أو صفحات الكتب الفقهية، بل هي نهرٌ يتدفق من ينابيع الوحي، ليروي ظمأ الأمة إلى فهم دينها. إنها الرفيق الوفي للقرآن، تُفسِّر مجمله، وتُفصِّل مُجمله، وتُحيط بكل صغيرة وكبيرة في حياة المسلم. فكيف نشأ هذا المفهوم؟ وما سرُّ اختلاف تعريفاته بين اللغويين والفقهاء؟ دعنا نغوص في أعماق هذه الكلمة، نستخرج لآلئها، ونرسم خريطةً شاملةً لمعناها الذي جمع بين بساطة اللغة وعمق التشريع.


1. أصل الكلمة: حين تُولد الكلمات من رحم الثقافة

السنة في اللغة: أكثر من مجرد “طريقة”

لم تكن كلمة “السنة” في لغتنا العربية وليدة الصدفة، بل نبتت من جذرٍ ثلاثي (س ن ن) يحمل في طياته معاني الاستمرار والسلاسة، كالسيل الذي يُسنّ مجراه في الأرض ليصبح منهجًا مطروقًا. يقول العرب: “سَنَّ الماءُ في الأرض سَنًّا” إذا سال فيها واتخذ طريقًا لا يحيد عنه.

ولم تكن دلالتها قبل الإسلام أقلَّ ثراءً؛ فقد عرفها العرب كـ”العادة المتوارثة”، والتي قد تكون حميدة كالكرم، أو ذميمة كالثأر. لكن الإسلام أعاد صياغة هذا المفهوم ليصبح “الطريق المشرع” الذي لا عوج فيه.

شاهد قرآني:
{سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا} [الإسراء: 77]. هنا تتجلى السنة كـ”النموذج الكوني” الذي يحكم حركة التاريخ، فما حدث للأنبياء السابقين سيحدث لخاتمهم، وكأن الكون يسير بسنة لا تتخلف.


2. الاصطلاح الشرعي: عندما تتحول الكلمة إلى دستور

السنة النبوية: الوحي الثاني الذي يُحيي القلوب

إذا كان القرآن هو النص المُنزَّل، فإن السنة هي النص المُعاش، الذي حوَّل النبي ﷺ من خلاله الوحي إلى حركةٍ تُلامس كل تفاصيل الحياة. ولذا عرَّفها الأصوليون بأنها:

“كل ما صدر عن النبي ﷺ من قولٍ، أو فعلٍ، أو تقريرٍ، أو صفةٍ خَلقية أو خُلقية”.

لكن المذاهب الفقهية – برغم اتفاقها على هذا الجوهر – قد اختلفت في تحديد حدود المفهوم، كاختلاف ألوان الطيف حول ضوء واحد:

المذهبالتعريفالخصوصية
المالكيةما ثبت عن النبي ﷺ من غير الفرائض.التركيز على “العمل المدني” (كأحكام المعاملات).
الشافعيةكل ما صدر عن النبي ﷺ غير القرآن، سواءٌ أكان وحيًا أم اجتهادًا بشريًّا.التمييز بين السُّنن التعبُّدية والعادية.
الحنابلةالوحي الثاني (القرآن والسنة) المُلزم للمكلفين.اعتبار الإجماع والقياس جزءًا من السنة الضمنية.

مثال حيٌّ:
حين قال ﷺ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» (رواه البخاري)، لم يكن يشرع حركاتٍ شكليةً، بل كان يُعلِّم الأمة لغةً جديدة للحديث مع الخالق.


3. أنواع السنة: عوالم مختلفة تحت مظلة واحدة

أ) السنة القولية: الكلمة التي تُضيء الظلمات

هي الأحاديث التي نطق بها النبي ﷺ لتعليم الأمة، كقوله: «إنما الأعمال بالنيات» (متفق عليه). هذه الكلمات لم تكن مجرد حكمٍ أخلاقية، بل قوانينَ كونية تُفسِّر فلسفة التشريع.

ب) السنة الفعلية: الدين الذي تجسَّد خطواتٍ على الأرض

مشية النبي ﷺ بين الصحابة، وطريقة أكله، وحتى نومه، كلها كانت دروسًا عملية. ففي صلاته – مثلاً – تجلَّت هندسة روحية دقيقة، كأنما كل حركةٍ تُعادل معادلةً رياضية توصل إلى الله.

ج) السنة التقريرية: الصمت الذي يعلو فوق الكلام

عندما أكل الصحابة الضبّ أمامه ولم ينكر عليهم، كان هذا السكوت إقرارًا ضمنيًّا بأن الإسلام لا يصطدم مع العادات إلا إذا ناقضت التوحيد.

د) السنة التكوينية: النبي الإنسان

صفاته ﷺ الخَلْقية (كشَجَرة الرَّواء في طوله)، والخُلُقية (كحلمه مع الأعرابي الذي جذبه من ردائه)، جعلت من حياته نموذجًا لا يُجارى في الإنسانية.


4. الأصوليون والفقهاء: صراعٌ أم تكامل؟

الأصوليون: مهندسو القواعد الكبرى

ينظر الأصولي (كالإمام الشافعي في “الرسالة”) إلى السنة على أنها “الدليل التشريعي” الذي يُقاس عليه، فيُفرِّع منه الفروع كما تُستخرج الجواهر من المناجم.

الفقهاء: نقَّاشو التفاصيل الدقيقة

أما الفقيه (كابن قدامة في “المغني”) فيرى السنة كـ”التطبيق العملي” للقواعد، فيُصنِّفها إلى:

  • سُنن مؤكدة: كالسنن الرواتب.
  • سُنن مستحبة: كصلاة الضحى.
  • سُنن عادية: كطريقة اللباس.

5. التاريخ يُعيد اكتشاف السنة

من الذاكرة الشعبية إلى المكتبات الضخمة

بدأ تدوين السنة في القرن الثاني الهجري، لكن المفارقة أن أول كتاب جامع لها – “الموطأ” للإمام مالك – لم يُدوَّن بأمر خليفة، بل بطلب تلاميذٍ رأوا في السنة كنزًا لا يُرقى له.

أرقامٌ تُذهل:

  • جمع البخاري 600 ألف حديث، انتقى منها 7,275 فقط (أي بنسبة 1.2%).
  • لو كُتبت سنن أبي داود على أوراق اليوم لملأت 10 مجلدات ضخمة.

الخاتمة:

السنة – في نهاية المطاف – ليست مصطلحات تُحفظ، بل حياةٌ تُعاش. وإن اختلفت تعريفاتها بين من يراها “مصدر تشريع” أو “منهج حياة”، فهي تبقى النور الذي يهدي إلى الصراط المستقيم. وكما قال الإمام أحمد: «السنة سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق».


مراجع المقال:

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى