المصطلحات

تعريف الأسطورة: رحلةٌ في أعماق الكلمة والرمز

هل تساءلت يومًا لماذا تشدنا حكاياتُ الأسلاف بقوةٍ تفوق منطق العصر؟ لماذا نقرأ عن آلهةٍ تتصارع في السماوات، أو أبطالٍ يسرقون النار من السماء، وكأننا نستعيد ذاكرةً غائبةً عنا؟ الأسطورة ليست حبرًا على ورق، بل هي مرآةٌ تُعيد تشكيل وعينا بالعالم. في هذا المقال، سنغوص معًا إلى جذور كلمة “الأسطورة”، ونكشف عن طبقاتها المختبئة بين السطور، من ألواح الطين في بلاد الرافدين إلى شاشات هوليوود اللامعة. هل أنت مستعدٌ لرحلةٍ تلمسُ روح الكلمة؟


أصل الكلمة: من “سَطَرَ” إلى “ميثوس”.. كيف ولدت الأسطورة؟

إذا أردنا أن نتعقبَ أثرَ الأسطورة في اللغة العربية، فعلينا أن ننحني أمام جذرها: “سَطَرَ”، ذلك الفعل الذي يعني نسجَ الكلمات في سلكٍ متماسك. ففي الجاهلية، كان السَّطرُ يُشير إلى تدوين الحكمة، لكنه تحوّل ليصف قصصًا تخرج من عالم الواقع إلى فضاءات الخيال. وقد ورد ذكر “أساطير الأولين” في القرآن الكريم (سورة القلم: 15) ناقدًا أولئك الذين رأوا في الرسالات مجرد حكايات مكرورة. أما في اليونان، حيث انبثقت كلمة “Mythos”، فكانت الأسطورة حكايةً مقدسةً تُروى حول النار في معابد الأولمب، تُخلّد صراع زيوس مع العمالقة، أو حكمة أثينا. حتى إذا انتقلت الكلمة إلى اللاتينية ثم الإنجليزية (“Myth”)، حملت معها ذلك التناقض بين الواقع والخيال، بين الحقيقة والرمز.


مفهوم الأسطورة: حين يصبح الخيالُ جسرًا للحقيقة

لا تكتملُ الأسطورة إلا حين نسأل: ما الذي يجعلها تختلف عن الحكاية الشعبية أو الملحمة؟ هنا يقدم لنا الأنثروبولوجي برونيسلاف مالينوفسكي إجابةً مضيئة: “الأسطورة سردٌ مقدسٌ يُفسّر أصل الكون، ويحمل في طياته دستورًا أخلاقيًا للمجتمع”. ففي مصر القديمة، لم تكن أسطورة إيزيس وأوزوريس مجردَ قصة عن الحب والانتقام، بل كانت تفسيرًا لفيضان النيل، ودليلًا على انتصار الحياة على الموت. أما الرومان، فبنوا هويتهم على أسطورة التوأمين رومولوس وريموس، اللذين رضعا من ذئبةٍ وأسسا مدينةَ القياصرة. وهكذا، تتحول الأسطورة إلى عقدٍ اجتماعيٍ غير مكتوب، يُذكِّر البشر بأنهم جزء من سرديةٍ أكبر.


معنى الأسطورة: النار التي لا تنطفئ

إذا شئنا أن نفهمَ معنى الأسطورة بعمق، فلننظر إلى بروميثيوس، ذلك التايتان الذي سرق النار من الآلهة وهبها للبشر. النار هنا ليست شعلةً مادية، بل هي رمزٌ للمعرفة التي تحرر الإنسان من ظلام الجهل. وكذلك أسطورة الطوفان في ملحمة جلجامش، التي لا تروي كارثةً مائيةً فحسب، بل تكشف عن الصراع الأبدي بين البشر ورغبتهم في الخلود.
ولعل العالم كارل يونغ يقدم لنا مفتاحًا آخر لفك شفرة الأسطورة عبر نظريته عن “النماذج البدئية”، كالأم الكبرى (التي تجسّدها الأرض في كل الحضارات)، أو البطل الذي يخرج من رحم المعاناة ليُعيد النظام إلى العالم. الأسطورة، إذن، هي لغة اللاوعي الجمعي، التي تتحدث بها كل الثقافات بلهجاتٍ مختلفة.


الأسطورة في العصر الحديث: من أوليمبوس إلى هوليوود

قد تظن أن الأساطير ماتت مع انطفاء نار المعابد، لكنها ببساطةٍ غيّرت ثوبها. ففي أفلام مارفل، يعود إله الرعد “ثور” ليحارب في نيويورك، حاملاً مطرقةً كهربائية بدلًا من البرق. وفي سلسلة هاري بوتر، تُحيي “عنقاء دمبلدور” فكرة الخلود من رمادها، وكأنها إشارة إلى طائر الفينيق اليوناني. بل إن الأساطير الجديدة تُولد في العصر الرقمي؛ فـ “نظريات المؤامرة” التي تملأ الإنترنت ما هي إلا أساطير معاصرة، تقدم تفسيراتٍ بسيطةً لتعقيدات العالم، مثلما فعلت أسطورة “التنين” لشرح الزلازل قديمًا.


لماذا ما زلنا نحتاج إلى الأساطير؟

في كتابه الثوري “البطل بألف وجه”، يكشف جوزيف كامبل أن كل الحكايات العظيمة – من أوديسيوس إلى لوك سكايووكر – تتبع نمطًا أسطوريًا واحدًا: مغادرة المنزل، التحديات، العودة بالنصر. حتى الأدب العربي لم يسلم من سحر الأسطورة؛ ففي رواية “أولاد حارتنا”، يحوّل نجيب محفوظ شخصيات آدم وموسى وعيسى إلى رموزٍ تنبض بالصراع الإنساني. الأسطورة، بهذا المعنى، ليست هروبًا من الواقع، بل هي مرآةٌ نرى فيها أعمقَ أسئلتنا: من نحن؟ ولماذا نحن هنا؟


الخاتمة:

في النهاية، الأسطورة ليست مجرد كلمةٍ نطالعها في الكتب، بل هي نهرٌ يجري في دماء الإنسانية منذ أن حوّل الإنسانُ النجومَ إلى صورٍ وقصص. ربما لو تأمل كلٌ منا حياته، لوجد فيها أسطورته الخاصة: معاركُه مع التنين الداخلي، أو رحلته بحثًا عن “الكأس المقدسة” التي تمنح حياته معنى. فما هي الأسطورة التي تُشكّلك أنت؟


اقتباس :
“الأسطورة ليست كذبة، بل هي مكانٌ نلتقي فيه جميعًا تحت ظل الحقيقة.”
— مُلهمة من أفكار ميرسيا إلياد.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى