المصطلحات

المجدلية: أصل الكلمة، معناها، ودلالاتها التاريخية والثقافية

هل مرَّ بخلدك مرةً، وأنت تسمع اسم “المجدلية”، أن تسأل نفسك: ماذا يُخبئ هذا اللفظ من أسرار؟ أهو مجرد لقبٍ جغرافيٍ بسيط، أم أنه يحمل في طياته رحلةً من الصراع بين القداسة والخطيئة، بين الحقيقة والأسطورة؟ إنها “المجدلية”، ذلك الاسم الذي التصق بإحدى أشد الشخصيات إثارةً للجدل في التاريخ الديني والثقافي، حتى غدا رمزًا يُحكى عنه في الكنائس والجامعات، وفي لوحات الفنانين وروايات الأدباء. فتعالَ نغوص معًا في أعماق هذه الكلمة، نكشف أصلها، نعري معناها، ونسبر أغوار دلالاتها التي امتدت من أرض الجليل إلى صالونات الفلاسفة!


الفصل الأول: جذور الاسم.. من أين نبتت “المجدلية”؟

مجدل: البرج الذي حَمَلَ اسمًا وخلَّدَ امرأة

لا يُمكن أن نبدأ حديثنا عن “المجدلية” دون أن نعود إلى ذلك المكان الصغير المُطل على بحيرة طبريا، حيث كانت تقع قرية “مجدل” اليهودية، والتي تعني في العبرية “البرج” أو “الحصن”. فكأنما القدر أراد لهذا الاسم أن يكون نبوءةً عن امرأةٍ ستصير هي نفسها حصنًا للإيمان، أو برجًا يُضاء في تاريخ المسيحية المبكرة. فـ “مجدل” هي مسقط رأس مريم المجدلية، التلميذة التي ورد ذكرها في الإنجيل مرارًا، والتي وقفت عند صليب المسيح، وكانت أول من بشِّر بقيامته.

لكن أترى الاسم اقتصر على دلالته الجغرافية؟ كلا! ففي العربية، تحولت “مجدل” إلى “المجدلية” كـ نسبةٍ، لكن هذه النسبة لم تكن مجرد إشارةٍ إلى المكان، بل صارت لقبًا دينيًا يُضفي على حاملته هالةً من القداسة، أو ربما من الغموض المُتعمَّد! وكما يقول ابن منظور في لسان العرب: “النسبة تُغيِّر من حال المنسوب، كأنها تُلبسه ثوبًا جديدًا”. وهكذا أُلبست مريم ثوب “المجدلية”، فصار اسمُها عنوانًا لقصتها.


الفصل الثاني: المعنى.. بين الجغرافيا والرمز

هل كانت “المجدلية” مجرد امرأة من مجدل؟

لو سألتَ عالم لغةٍ عن معنى “المجدلية” لقال لك: “هي نسبةٌ إلى قرية مجدل، كأن نقول: القيرواني نسبةً إلى القيروان”. لكن هل وقف الأمر عند هذا الحد؟ لو كان الأمر كذلك، لما اختلفت الآراء فيها عبر القرون! ففي الإنجيل، وُصفت مريم المجدلية بأنها المرأة التي “خرج منها سبعة شياطين”، والتي تبعَت المسيح حتى الصليب. لكن هيهات! فالأمر تعقَّد عندما خلط آباء الكنيسة بينها وبين “المرأة الخاطئة” التي غسلت قدمي المسيح بدموعها في إنجيل لوقا، فتحولت من تلميذةٍ مخلصة إلى رمزٍ للتوبة من الخطيئة الجنسية!

وهنا يثور سؤالٌ جريء: ألم يكن هذا الخلط المتعمَّد محاولةً لطمس دورها القيادي في المسيحية المبكرة؟! ففي إنجيل فيليب (أحد النصوص الغنوصية)، ورد أنها “رفيقة المسيح الحميمة”، التي كان يُقبّلها على فمها! فكأنما تحوَّل اسمها من دلالةٍ جغرافيةٍ بريئة إلى سلاحٍ ثقافيٍ لإخضاع المرأة، أو رفعها، وفقًا لوجهة النظر!


الفصل الثالث: الدلالات.. عندما يصير الاسم أسطورة

من التلميذة الأمينة إلى “القديسة العاهرة”!

في القرن السادس الميلادي، أعلن البابا غريغوري الأول أن مريم المجدلية هي نفسها المرأة الخاطئة في إنجيل لوقا، فتحولت إلى أيقونة التوبة في الفن والأدب. لكن هل تعلم أن هذا الخلط لم يرد في الإنجيل نفسه؟! نعم! لقد اختلط الحابل بالنابل حتى صار اسمها مرادفًا للخطيئة، بينما هي – بحسب الإنجيل – كانت شاهدةً على أقدس أحداث المسيحية.

ولم يسلم هذا الاسم من براثن الفن! ففي لوحة “توبة المجدلية” لتيتيان، تظهر ساحرة الجمال مُمسكةً بجمجمةٍ، وكأنما يقول الفنان: “انظروا، ها هي التائبة التي حوَّلتها الكنيسة من قائدةٍ إلى خادمة!”. أما دان براون في روايته “شفرة دافنشي”، فقد ذهب إلى أن دافنشي أخفى سرّ زواج المسيح منها في لوحة “العشاء الأخير”! ترى، أليس من العجيب أن يتحول اسمٌ جغرافيٌ بسيط إلى مُحركٍ للمؤامرات التخيلية؟!


الفصل الرابع: المجدلية اليوم.. بين التنوير والتشويه

هل نعيد لها اعتبارها أم نستمر في تشويهها؟

في القرن الحادي والعشرين، ثارَ الباحثون كالأسود للدفاع عن حقيقتها. كارين كينج، أستاذة اللاهوت بجامعة هارفارد، تؤكد في كتابها “إنجيل مريم المجدلية” أن النصوص الغنوصية المُكتشفة في نجع حمادي (مصر) تثبت أنها كانت “رسولة الرسل”، بل وتتنبأ باضطهادها! أما الفاتيكان، فقد رفعَ عنها رسميًا لقب “الخاطئة” عام 1969، لكن الأسطورة ظلت عالقةً في الأذهان.

أما في الثقافة الشعبية، فصرنا نرى الاسم يُستخدم سُخريةً أحيانًا! ففي إحدى المسرحيات المصرية، تُلقب امرأةٌ متلاعبةٌ بـ “المجدلية العصرية”! وكأنما تحوَّل الاسم من دلالةٍ مقدسةٍ إلى نكتةٍ! لكن هل هذا من العدل؟ أم أنه استمرارٌ لظلمٍ تاريخيٍ؟!


الخاتمة: المجدلية.. اسمٌ أم مصير؟

ها نحن نصل إلى نهاية الرحلة، وقد اتضح لنا أن “المجدلية” ليست مجرد اسمٍ، بل هي قضيةٌ فلسفيةٌ ودينيةٌ واجتماعية. فمن هي في رأيك؟ أهي التلميذة الأمينة التي أرادتها الكنيسة الأولى أن تكون، أم المرأة التائبة التي صنعتها أيدٍ بشريةٌ لتحقيق أغراضٍ مذهبية؟ ربما الجواب الأهم هو أن “المجدلية” صارت مرآةً تعكس رؤية كل عصرٍ للمرأة: قديسةً أو خاطئة، قائدةً أو ضحية. فهل نستطيع اليوم أن نكسر هذه المرآة، ونرى الاسم كما هو: بسيطًا، عابقًا برائحة زيتون مجدل، دون أوهامٍ أو أحكام؟


مراجع المقال:

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى