الإمساك في رمضان: تعريفه ودلالاته الشرعية

إذا كان الصومُ جُنَّةً من النار، فإنَّ الإمساكَ هو البابُ الذي يُقرَعُ لدخول هذه الحِصْن. لكنَّه ليس بابًا خشبيًّا يُفتح ويُغلَق، بل هو بابٌ مِن نورٍ، يُضيءُ مع بزوغ الفجر، ويُطوى مع غروب الشمس. هنا، حيثُ يلتقي الزمنُ الأرضيُّ بالزمنِ الرُّوحي، يبدأ سفرُنا لمعرفة معنى “الإمساك في رمضان”، لا كلفظٍ عابر، بل كعالمٍ مِن الأسرار التي تَحملُها الكلمةُ في طيّاتِ اشتقاقِها اللغوي، وتفاصيلِها الشرعيّة، وحِكَمِها التي تَنضحُ على قلبِ الصائم.
الفصل الأول: كلمة “الإمساك”.. حَفريَّاتٌ لغويَّةٌ في أعماقِ المَعنى
لو عُدنا بالزمنِ إلى جذورِ اللغة العربية، لوجدنا أنَّ الفعل “أمسك” يَحملُ في أحشائِه دلالاتٍ تَزيدُ عن مجرد “الكفِّ” المادي. فهو يُطلقُ على مَنْ يَشُدُّ وثاقَ الشيءِ ليَمنعَهُ من التفلُّت، كما في قولِ العرب: “أمسَكَ الرجلُ دابَّتَه” أي شدَّ رِكابَها. لكنَّ القرآنَ الكريمَ رَفَعَ المَعنى إلى آفاقٍ أعمق، فجاءت الآية: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} (النساء:15)، حيثُ الإمساكُ هنا ليس حبسًا ماديًّا فحسب، بل هو تقييدٌ يَهدفُ إلى الإصلاح.
أما في اصطلاحِ الفقهاء، فقد صار الإمساكُ في رمضانَ رِحلةً يوميَّةً يَقطعُها المسلمُ بين الفجرِ والمغرب، مُمسِكًا عن سِوى ذكرِ الله. وكأنَّ الآيةَ الكريمةَ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (البقرة:187)، تُحيلُنا إلى لوحةٍ فنيَّة: خيطانِ، أحدهما يَنسابُ من سوادِ الليل، والآخرُ يَندلقُ من بياضِ النهار، والصائمُ بينهما كالرسامِ الذي يَنتظرُ اكتمالَ الصورة.
الفصل الثاني: الإمساكُ الشرعيّ.. عِبادةٌ تَسري في عُروقِ الزَّمن
لا يَنفصلُ الإمساكُ في رمضانَ عن روحِ الصومِ التي وَصَفها النبيُّ ﷺ بقولِه: “الصِّيامُ جُنَّةٌ، فإذا كان يومُ صومِ أحدِكم فلا يَرفُثْ ولا يَصخَبْ” (متفق عليه). هنا تَبرُزُ ثلاثُ دَعائمَ:
- الدَّعامةُ الزمنيَّة:
الإمساكُ ليس خَيارًا يَخضعُ لهوى النَّفس، بل هو التزامٌ بدقائقَ مُحكَمةٍ. فالفجرُ الصادقُ – ذلك الخيطُ الأبيضُ – ليس مجردَ علامةٍ ضوئيَّة، بل هو “وَقْتٌ مَعْلومٌ” كما في سورة الحجر (آية 37)، يُذكِّرُ الإنسانَ بأنَّه جُزءٌ مِن نِظامٍ كونيٍّ لا يَخرجُ عن مشيئةِ الخالق. - الدَّعامةُ الاجتماعيَّة:
عندما يُمسكُ مليونٌ مُسلمٍ في الهندِ عن الطعامِ نفسَ اللحظةِ التي يُمسكُ فيها مليونٌ آخرُ في المغرب، تُصبِحُ هذه العبادةُ خيطًا ذهبيًّا يَخيطُ أمةً ممتدَّةً عبرَ القارَّات. - الدَّعامةُ الرُّوحيَّة:
الإمساكُ الحقيقيُّ يَبدأُ حينَ تَمسكُ النَّفسُ عن إرادةِ المعصية، كما قال الإمام الغزالي: “صومُ العوامِّ عن الشهواتِ، وصومُ الخواصِّ عن السَّهوات”.
الفصل الثالث: الأذانان.. رِحلةٌ بين النداءِ الأوَّلِ والثاني
لعلَّ أعمقَ ما يُثيرُ الحيرةَ في موضوعِ الإمساكِ هو ذلكَ الالتباسُ بين “أذانِ الإمساك” و”أذانِ الفجر”. لنُفرِّقْ بينهما كما يُفرِّقُ الناقدُ بينَ نسختينِ مِن مخطوطةٍ قديمة:
- النداءُ الأوَّل (أذانُ الإمساك):
هو جرسُ إنذارٍ استباقيٌّ، ظهرَ في العصرِ المملوكيِّ في مصرَ، عندما رأى المؤذِّنونَ أنَّ الفجرَ الكاذبَ (الذي يَظهرُ عموديًّا كذنبِ السِّرحان) يَخدعُ بعضَ الصائمين. فأخذوا يُؤذِّنونَ قبلَ الفجرِ الصادقِ بعشرِ دقائقَ، كي يَستعدَّ الناسُ. لكنَّ هذه العادةَ – كما يَذكرُ ابنُ تيمية – ليستْ مِن سننِ النبيِّ ﷺ، بل هي اجتهادٌ فقهيٌّ لضبطِ الوقت. - النداءُ الثاني (أذانُ الفجر):
هو الصوتُ الذي يَقطعُ ظلامَ الليلِ كالسيفِ، معلنًا بدءَ الوقتِ الشرعيِّ للإمساك. وفي ذلكَ يقولُ النبيُّ ﷺ: “إنَّ بلالًا يُؤذِّنُ بليلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ” (رواه البخاري). وكأنَّ الأذانَ الثاني هو الختمُ الرسميُّ على عقدِ الصيام.
الفصل الرابع: مواقيتُ الإمساك.. رحلةٌ بين المذاهبِ والنجوم
اختلفَتْ أنظارُ الفقهاءِ في تحديدِ لحظةِ الإمساكِ، كاختلافِ رساميَنِ يَرسُمانِ الفجرَ بلونينِ مختلفين:
المذهب | رؤيتُهم لطلوعِ الفجر | دليلُهم الشرعيّ |
---|---|---|
الحنفية | يَبدَأُ الإمساكُ عندَ التأكُّدِ مِن ظهورِ البياضِ الأفقِي. | قولُه تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} (البقرة:187). |
الشافعية | يُستحبُّ الإمساكُ قبلَ الفجرِ بِعشرِ دقائقَ احتياطًا. | حديثُ: “دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ” (الترمذي). |
المالكية | الإمساكُ واجبٌ فقط بعدَ التأكُّدِ مِن طلوعِ الفجرِ. | قاعدة: “اليقينُ لا يَزولُ بالشكِّ”. |
أما العِلمُ الحديثُ، فقد دخلَ على الخطِّ بِمِزْوَلهِ الفلكيَّة، فصرنا نَعرفُ أنَّ الفجرَ الصادقَ يَبدأُ عندما تَصِلُ الشمسُ إلى 18 درجةً تحتَ الأفق، بينما الكاذبُ عندَ 12 درجةً. وهذا ما جعلَ دولًا كالسعوديةَ تُصدرُ تقويمًا فلكيًّا دقيقًا، يَصلُ هامشُ الخطأِ فيهِ إلى ± دقيقةٍ واحدةٍ!
الفصل الخامس: أسئلةٌ تَطفو على سطحِ الوعي.. وأجوبةٌ مِن أعماقِ التراث
السؤال الأول: “هل يَجوزُ الأكلُ أثناءَ أذانِ الفجر؟”
الجوابُ يَنبثقُ مِن حديثِ النبيِّ ﷺ: “إِذَا سَمِعَ أَحَدُكُمُ النِّدَاءَ وَالإِنَاءُ عَلَى يَدِهِ، فَلا يَضَعْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْهُ” (أبو داود). هنا، يُصبحُ الأذانُ كصَفَّارةِ إنذارٍ لِلسفينةِ التي على وشكِ الإبحارِ: مَن كانَ على المَرفأِ فلهُ أن يَصعدَ، ومَن كانَ في البحرِ فليُسرعْ إلى الشاطئ.
السؤال الثاني: “متى يكونُ الإمساكُ في غيرِ رمضان؟”
الجوابُ يَستدعي استحضارَ صورةِ “صومِ داود”، الذي كانَ يَصومُ يومًا ويُفطرُ يومًا. فالإمساكُ في النوافلِ كصومِ عاشوراءَ أو أيامِ البيضِ، هو نَسخةٌ مُصغَّرةٌ مِن رمضان، لكنَّها تَحملُ نفسَ الرُّوحِ: التوقيتُ الدقيقُ، والنيةُ، والامتناعُ عن المفطرات.
السؤال الثالث: “ما آخرُ وقتٍ للسحور؟”
هنا تَتدخَّلُ الحِكمةُ النبويَّة: “تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً” (متفق عليه). لكنَّ البركةَ لا تتعارَضُ مع الدقةِ، فالسُّنَّةُ تَقولُ: “الفَجرُ فَجرانِ: فَجرٌ تَحرُمُ فيهِ الصلاةُ، ويَحلُّ فيهِ الطعامُ (الكاذب)، وفَجرٌ تَحرُمُ فيهِ الطعامُ، ويَحلُّ فيهِ الصلاةُ (الصادق)”.
الفصل السادس: مِن أذانِ بلالٍ إلى تطبيقاتِ الجوَّال.. رحلةُ الإمساكِ عبرَ التَّاريخ
- في عهدِ النبيِّ ﷺ: كانَ بلالٌ – مؤذِّنُ الليل – يُمسكُ بندائِهِ ليُوقِظَ النائمينَ للسحور، بينما ابنُ أمِّ مكتومٍ – الأعمى – كانَ أذانُهُ إيذانًا ببدءِ الصوم. وكأنَّ النبيَّ أرادَ أن يقولَ: “الإمساكُ يَبدأُ حينَ تَراهُ العينُ البصيرةُ، لا العينُ الظاهرة”.
- العصرُ العباسيُّ: دخلَ علمُ الفلكِ حَيزَ التطبيق، فظهرَتْ “الاسطرلابات” – آلاتٌ فلكيَّةٌ – لرصدِ الفجرِ، كما في كتابِ “الزيجِ السَّنْدِهند” للخوارزمي.
- العصرُ الرَّقميُّ: صارَ هاتفُك الذكيُّ يُنبئُك بموعدِ الإمساكِ بدقةِ ثانيةٍ، وكأنَّ الآيةَ {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (الذاريات:22) تَتجلَّى في صورةِ أقمارٍ صناعيَّةٍ.
الفصل السابع: الإمساكُ والنيةُ.. ثنائيَّةٌ تَثيرُ اللَّبسَ
يَخلطُ البعضُ بينَ “النيةِ” و”الإمساكِ”، فيَظنُّ أنَّ النيةَ هي ترديدُ عبارةٍ قبلَ الفجر. لكنَّ الحقيقةَ – كما يُوضِّحُ الإمامُ مالك – أنَّ النيةَ هي عقدُ القلبِ على الصومِ، ولا تحتاجُ إلى لفظٍ. فلو أنَّ امرأةً استيقظَتْ بعدَ الفجرِ، ولم تَكُنْ نَوَتِ الصومَ من الليل، فصومُها باطلٌ حتى لو أمسكَتْ عن الطعامِ. هنا يَبرُزُ الفرقُ الجوهريُّ:
- النيةُ: بذرةٌ تُزرعُ في ليلةِ الصومِ.
- الإمساكُ: غصنٌ يَنمو مِن هذهِ البذرةِ عندَ الفجرِ.
خاتمة: الإمساكُ.. لَحظةٌ تُذكِّرُنا بأنَّنا خُلِقْنَا لِنَعْبُدَ
في كلِّ صباحٍ رمضانيٍّ، حينَ يُمسكُ المسلمُ عن فنجانِ القهوةِ الذي اعتادَه، أو عن قطعةِ الحلوى التي تُغريه، فهو – دونَ أن يَشعر – يَكتبُ بريشةِ الإرادةِ سطرًا في مخطوطةِ التحرُّرِ مِن أسرِ العادةِ. وكما قالَ جلالُ الدين الرومي:
“الصومُ هو أن تَمسكَ عن الطعامِ، ثم تَكتشفَ أنَّ الطعامَ كانَ يَمسكُ عنكَ روحَكَ”.
فهنيئًا لِمَنْ جعلَ مِن إمساكِه مِفتاحًا لِفهمِ حكمةِ اللهِ في الزمنِ، والذاتِ، والكونِ.
المراجع:
- تفسير القرطبي، سورة البقرة.
- “فتح الباري” لابن حجر العسقلاني، كتاب الصوم.
- “بداية المجتهد” لابن رشد، فصل في ميقات الإمساك.
- موقع “الموسوعة الفقهية” التابع لوزارة الأوقاف الكويتية.