الأوتوقراطية: سُلطة الفرد بين سطوة التاريخ وصرخة الحاضر

كيف يُمكن لِكلمةٍ أن تَحمل في حروفها قصةَ أممٍ سقطت، وأخرى قامت؟ وكيف تَختزلُ ألفاظُ السياسة صراعاتٍ بين العقل والهُوى، بين الحُرية والعبودية؟ إنها “الأوتوقراطية”، ذلك الوحش القديم المُزيَّن بِتاج الشرعية، الذي يَنتحلُ أحياناً صورةَ المُنقذ، وأحياناً صورةَ السَّفاح. دعونا نُبحر في أغوار هذه الكلمة، لا كمُجرَّد مُصطلحٍ جامد، بل كمرآةٍ تعكسُ طبيعةَ الإنسان حين يُمسك بمقاليد القوة، فيَنسى أنَّ السُلطةَ وديعةٌ لا مُلكٌ، وأنَّ الحُكمَ مسؤوليةٌ لا امتيازٌ.
القسم الأول: أصل الكلمة.. حين تَخْطُطُ اللغةُ مَسارَ التاريخ
إذا أردنا أن نَفهمَ “الأوتوقراطية”، فليس لنا إلا أن نَعودَ إلى مَهْدِها الأول، إلى اليونان، حيثُ وُلدت الكلمةُ كَطفلٍ مشوّهٍ نَبَذَهُ آباؤه. فاليونانيون، الذين أهدَوا للعالم “الديمقراطية“، رَأوا في جيرانهم الفُرس صورةَ “الأوتوقراطي” القاسية:
- “αὐτός” (أوتو): أي “الذات”، كأنَّ الحاكمَ يرى في نفسه إلهاً.
- “κράτος” (كراتوس): أي “السُلطة”، كسيفٍ مُعلَّقٍ على رقاب العباد.
لكنَّ العجيبَ أنَّ اليونانَ نفسها، رغم شِعاراتها الديمقراطية، لم تَسلم من براثن الأوتوقراطية حين استَبدَّ بها الإسكندرُ المقدوني، فحوَّلَها إلى إمبراطوريةٍ تَئنُّ تحت وَطأة الفرد الواحد. وهكذا، تَتحولُ الكلماتُ من دلالاتها اللغوية إلى أدواتٍ لفهمِ تناقضاتِ الحضارات: فمَن يَصنعُ التاريخَ؟ هل هو الشعبُ أم الطاغية؟
القسم الثاني: المعنى.. حين تَخْتلطُ المفاهيمُ كالأشباح
الأوتوقراطيةُ ليست مجردَ “حُكم الفرد”، بل هي فخٌّ من الفخاخ التي تُزيّنُها اللغةُ لِتضليلِ العقول. فهي تارةً تَتَخفى وراءَ “الشرعية التاريخية”، كحُكمِ الملوكِ المُقدسين، وتارةً تَتَسترُ بِعباءة “الضرورة الوطنية”، كحالِ الجنرالاتِ الذين يَسلبونَ الحُكمَ باسم إنقاذ الشعبِ من نفسه!
ولكن، ما الفرقُ بينها وبين الديكتاتورية؟
الديكتاتورُ يُعلنُ عن نفسهِ عدوّاً للشعب، بينما الأوتوقراطي يُمارسُ عداءَه في صمت، كالطبيبِ الذي يَقتلُ مريضَهُ بِدواءٍ مُسمَّم. الديكتاتورُ يَصعدُ إلى السُلطةِ على جُثثِ الثوار، أما الأوتوقراطي فيَرثُها كإرثٍ أبوي، وكأنما السُلطةُ قطعةُ أرضٍ تَنتقلُ من الأب إلى الابن!
القسم الثالث: الآثار.. حين تَصيرُ الشعوبُ ظِلالاً
لا تَقتصرُ جريمةُ الأوتوقراطية على سَلبِ الحريات، بل تَتمددُ كالسرطان لِتُدمرَ جسدَ الأمةِ كله:
- الاقتصادُ: يَصيرُ مزرعةً خاصةً للنخبة، حيثُ يُوزعُ الثراءُ كصدقةٍ على المُقربين، ويُمنعُ الفقراءُ حتى من أن يَطالبوا بِحقهم في الفُتات.
- الثقافةُ: تَتحولُ إلى بوقٍ يُرددُ أناشيدَ التمجيد، ويُمحو كلُّ صوتٍ يُخالفُ روايةَ السُلطة، كأنما الأوطانُ تُبنى بِالكذبِ لا بِالحقائق.
- الإنسانُ: يَصيرُ رقمًا في سجلٍّ مَنسي، لا قيمةَ له إلا بِقدرِ طاعته، وكأنما وُجدَ على الأرضِ لِيَكونَ خادماً لِأوهامِ الحاكم.
أليست هذه صورةً من صورِ الموتِ البطيء؟ بل هي أقسى، فالموتُ يُحررُ الجسدَ، أما الأوتوقراطية فَتُقيدُ الروحَ.
القسم الرابع: في الواقع العربي.. حين تَصيرُ التبعيةُ ثقافةً
لا يَخلو التاريخُ العربي من أمثلةٍ تُجسّدُ الأوتوقراطية بِوضوحٍ مُخجل:
- في الماضي: كانت الخلافةُ العباسيةُ تُقدمُ نفسها كظلّ الله على الأرض، لكنَّ الخلفاءَ أنفسهم كانوا ألعوبةً في يدِ القادة العسكريين، وكأنما السُلطةُ الحقيقيةُ لا تَظهرُ إلا حين تَختفي!
- في الحاضر: ها هو نظامٌ عربي يُعلنُ الحربَ على شعبِه لِيُبقي على كرسيِّه، وكأنما الأرضُ والشعبُ إقطاعيةٌ تُورثُ عبر الأجيال.
لكنَّ السؤالَ الأكثرَ إيلاماً: لماذا يَرضخُ البعضُ لهذه الأنظمة؟
الجوابُ قد يَكمنُ في “ثقافةِ الخوف” التي تَغرزُ جذورَها في التربيةِ والمناهجِ التعليمية، فالشعبُ الذي يُعلّمُه حاكمُه أنَّه “عاجزٌ” و”جاهلٌ” سَيَخشى حتى من حلمِ الحرية!
الخاتمة: الأوتوقراطية.. هل هي قدرٌ أم اختيار؟
لطالما تَساءلتُ: هل تَموتُ الأوتوقراطيةُ حين يَموتُ حاكمُها، أم إنها تَخلدُ كالأساطير؟
الإجابةُ تَكمُنُ فينا. فالأوطانُ لا تُبنى بِالقُصورِ الفخمة، بل بِإرادةِ الشعوبِ التي تَرفضُ أن تَكونَ ظِلاً لِفردٍ واحد. فالتاريخُ يُعلمنا أنَّ السُلطةَ المطلقةَ كالرمالِ المتحركة، كلما اشتدَّ تمسكُ الحاكمِ بها، زادَ غوصُه نحوَ حتفِه.
كلمةٌ أخيرة:
أكتبُ هذه السطورَ وأنا أتذكرُ قولَ المُتنبي:
“ذو العقلِ يشقى في النعيمِ بعقلهِ.. وأخو الجهالةِ في الشقاوةِ ينعمُ”
فهل نَختارُ أن نَشقى بِسعيِنا للحرية، أم نَنعمُ بِذلِّ القيود؟