مخطوطة فوينيتش: لغز الكتاب الذي هزم العلم والعقل!

في ركنٍ مُظلمٍ من مكتبة “جامعة ييل”، يرقد كتابٌ يُشبه طيفًا ورقيًّا، لا يُفارقه صمتٌ ثقيل. صفحاته المُرقَّمة بـ”MS 408” ليست كأي صفحاتٍ عرفها التاريخ، فهي لا تحمل حروفًا تُقرأ، بل شفراتٍ تُشبه ندوبَ الزمن، ورسومًا تسبح في فضاءٍ بين الواقع والخيال. هذا هو لغز مخطوطة فوينيتش، الكتاب الذي تحوَّل إلى لغزٍ كونيٍّ، يُذكِّر الإنسانَ بأن بعض الأسئلة ترفض الإجابة، وكأنها تستميتُ لتبقى سرًّا.
الفصل الأول: الوصف.. حين تصير المادة لغزًا
قبل أن نغوص في تأويلاتِ المخطوطة، علينا أن نلمسها كجسمٍ مادي، ففي تفاصيلها تكمنُ مفاتيحُ أولى.
1. الرقّ الذي يحمل زمنًا:
- التحليل الكربوني: في عام 2009، أكدت جامعة أريزونا أن رقَّ الغزال المُستخدم يعود إلى الفترة بين 1404 و1438 ميلادية، أي في أوج عصر النهضة الأوروبية، حين كانت المخطوطات تُنسخ بأناملَ مُذهلة.
- الحبر والألوان: كشفت دراسة معهد ماكروني (2011) أن الحبرَ مصنوعٌ من أكسيد الحديد المُخلوط بالصمغ العربي، بينما الألوانُ الزاهية (كالأحمر القرمزي) استُخرجت من حشرات القرمز (Kermes vermilio)، وهي تقنيةٌ شائعةٌ في ذلك العصر.
2. العين تقرأ ما لا تقرأه العقل:
- الخطوط: ليست حروفًا، بل رموزًا تُشبه خيوطَ العنكبوت، بعضها يتكرر كأنه كلمات، وبعضها يظهر مرةً واحدةً فقط في النص كله، مثل الرمز “٨” الذي ورد مرةً واحدةً في الصفحة 78r.
- الرسومات: 113 نبتةً خياليةً، 22 نجمةً فلكيةً بلا أسماء، ونساءٌ عارياتٌ يسبحن في قنواتٍ مائيةٍ تُشبه الأوعيةَ الدموية.
الفصل الثاني: التاريخ.. ظلٌّ بلا جسد
المخطوطة لا تحمل اسم مؤلف، ولا تاريخ كتابة، ولا حتى إهداءً يُلمح إلى هويتها. كل ما نعرفه عنها قائمٌ على ثلاث محطات:
- 1639: أول ذكرٍ تاريخيٍّ
- في رسالةٍ من عالم الكيمياء التشيكي جيورجي باريتش إلى القسيس الألماني آثاناسيوس كيرشر، وصفَ باريتش كتابًا غامضًا اشتراه من سمسارٍ مجهول، قائلًا: “إنه كتابٌ لا يفهمه إلا الله، أو ربما الشيطان”.
- 1912: ولادة اللغز الحديث
- اشتراها التاجر البولندي ويلفريد فوينيتش من اليسوعيين في إيطاليا، وأطلق عليها اسمه. منذ ذلك الحين، بدأت رحلة البحث عن الحقيقة.
- 1969: التبرع لجامعة ييل
- بعد وفاة فوينيتش، تبرعت أرملته “إثيل” بالمخطوطة إلى الجامعة، حيث تُحفظ حتى اليوم تحت رقم MS 408.
الفصل الثالث: محاولات الفك.. حين يُصارع العقل المستحيل
منذ قرنٍ من الزمان، والمخطوطة تُلقى في أحضان الخبراء كتحدٍّ، فتعودُ منهم خائبةً.
1. وليام فريدمان (1943): مُحطم الشفرات الذي استسلم
- الخلفية: الرجل الذي فكَّ شفرة “الآلة البنمية” خلال الحرب العالمية الثانية.
- المحاولة: قضى عامين في تحليل النص، معتقدًا أنه مكتوبٌ بلغةٍ طبيعيةٍ مُشفَّرة بطريقة “التشفير بالاستبدال”.
- الاستنتاج: “إنها إما خدعةٌ عبقرية، أو لغةٌ من عالمٍ آخر”.
2. غوردون روج (2003): نظرية الخدعة التاريخية
- الفكرة: افترض روج أن المخطوطة خُدعةٌ من القرن الخامس عشر، صممها محتالٌ باستخدام تقنية “شبكة التشفير” (Cardan Grille)، حيث تُوضع شبكةٌ فوق نصٍ عادي لاستخراج حروفٍ عشوائية.
- التجربة: أعاد روج صنع نصٍ مشابهٍ باستخدام هذه التقنية، لكن النص الناتج كان بلا معنى، مما دفع البعض إلى رفض النظرية.
3. الذكاء الاصطناعي (2018): عندما تعجز الآلة عن الفهم
- الدراسة: في جامعة ألبرتا الكندية، استخدم الباحثان غريغ كوندراك و برادلي هاور خوارزميةً ذكيةً لتحليل النص.
- النتيجة: اقترحت الخوارزمية أن اللغة قد تكون عبرية قديمة، مع حذف حروف العلة وعكس ترتيب الحروف.
- الترجمة الفاشلة: عند تطبيق القاعدة، ظهرت جملٌ مثل: “أوصتْ هي الكاهن، الرجل، البيت، وأنا”، مما أكد أن النص يرفض الكشف عن معناه.
الفصل الرابع: النظريات.. حيث يلتقي المنطق بالجنون
لا يخلو أي لغزٍ عظيمٍ من نظرياتٍ تسبح في فضاء الخيال، لكن مخطوطة فوينيتش فتحت أبوابًا لتأويلاتٍ تتجاوز المألوف.
الجدول (1): نظريات أصل المخطوطة بين العلم والخرافة
النظرية | المؤيدون | الأدلة | التناقضات |
---|---|---|---|
خدعة تاريخية | غوردون روج | – إمكانية تقليد النص بتقنيات القرن 15 | – الرسومات المعقدة تتعارض مع فكرة الخدعة |
لغة مُشفَّرة طبية | د. جاكوبي توبي | – تشابه بعض الرسومات مع أعضاء بشرية | – النباتات غير قابلة للتحديد |
وثيقة كاثارية سرية | د. ليونيل تشيمسكي | – ارتباط بعض الرموز بجماعة “الكاثار” المسيحية | – لا توجد أدلة تاريخية مباشرة |
أبرز النظريات الخارقة:
- الروجر بيكونية: افترض البعض أن العالم الإنجليزي روجر بيكون (القرن 13) كتبها باستخدام تكنولوجيا مستقبلية، لكن الكربون المشع دحض ذلك.
- الفرضية الفضائية: نشر الكاتب إريك فون دانكن كتابًا عام 1976 زعم فيه أن الرسومات تمثل نباتاتٍ من كواكب أخرى، لكنه لم يُقدم دليلًا ماديًا.
الفصل الخامس: لماذا يعجز العلم؟.. ثلاث كوابح أمام الفهم
- اللغة: لغزٌ داخل لغز
- التحليل الإحصائي للنص (وفق دراسة ماركوس دويست، 2013) يُظهر أن توزيع الحروف يتبع قانون زيبف (Zipf’s Law)، وهو قانونٌ يحكم اللغات الطبيعية، مما يعني أن النص ليس عشوائيًّا. لكنه مع ذلك لا يشبه أي لغةٍ معروفة.
- الرسومات: الواقعية المُضللة
- في الصفحة 86v، تُرسم نبتةٌ بجذورٍ حلزونيةٍ تُشبه دواليب الماء، لكنها تتناقض مع قوانين الفيزياء. هل هذه دقةٌ مقصودةٌ أم سذاجةٌ فنية؟
- السياق المفقود: التاريخ الذي اختفى
- لا توجد أي وثائق تاريخية تذكر المخطوطة قبل القرن السابع عشر، مما يجعلها كقطعة أثريةٍ بلا متحف.
الخاتمة: هل نحن مُستعدون لمعرفة الحقيقة؟
ربما تكمن عبقرية المخطوطة في أنها تُجسِّد صراعَ الإنسان الأبدي مع المجهول. هي ليست مجرد كتاب، بل مرآةٌ تعكسُ عجزَنا عن إخضاع كل شيءٍ للمنطق. وكما قال الفيلسوف لودفيغ فيتغنشتاين: “الحدودُ التي تفصلُ ما نعرفه عما لا نعرفه هي حدودُ لغتنا نفسها”.
اليوم، بينما تُحلَّق المركباتُ الفضائية نحو المريخ، وتُفتحُ الأبوابُ السريةُ للذرة، تبقى مخطوطة فوينيتش جاثمةً في مكتبة ييل، تُذكِّرنا بأن الكونَ يحتفظُ بأسراره كالكنوز، لا لِيُخفيها، بل لِيُغرينا بالبحث.
المراجع:
- التحليل الكربوني:
- Hodgins, G. (2009). Radiocarbon Dating of the Voynich Manuscript. University of Arizona.
- دراسة الحبر والألوان:
- McCrone, W. (2011). Pigment Analysis of the Voynich Manuscript. McCrone Research Institute.
- دراسة الذكاء الاصطناعي:
- Kondrak, G., & Hauer, B. (2018). Decoding Anagrammed Texts Written in an Unknown Language and Script. Transactions of the Association for Computational Linguistics.
- المراجع التاريخية:
- Kennedy, G., & Churchill, R. (2004). The Voynich Manuscript: The Unsolved Riddle of an Extraordinary Book. British Library.